بر الوالدين بين القران والسنة
بِرُّ الوَالِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدَينِ
بَيَـــــــــــــــــــــــــنَ القُـــــــــــــــرْآَنِ وَالســــــــــــــــــنَّةِ
مُقَــــــــــــــــــــــــدِّمَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٌ
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ آَيَاتِهِ
بِسْـــمِ اللهِ
الرَّحْمـــنِ الرَّحِيــــمِ
﴿ وَقَضَى رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا
إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبْرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا
وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ
الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (23) ﴾ .
صَــــــــــــــــــــــــــدَقَ اللهُ
العَظِيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمُ
تَعْـــــــــــــــــــرِيفُ البِرِّ لُغَةً وَ
شَـــــــــــــــــــــــرْعَـــــــــــــاً
تَعْرِيفُ البِرِّ لُغَةً
وَرَدَ فِي المُعْجَمِ الوَجِيزِ " بَرَّ فلان ربَّه :
توسع في طاعته. و بَرَّ والِدَيْهِ بَرَّ بِرًّا : توسَّع في الإحسان إليهما
ووصلهما. فهو بارٌّ. والجمع : بَرَرَة ".
قال الرازي في مختار الصحاح
" البِرُّ ضد العقوق ، وكذا المَبَرَّةُ ، تقول
بَرِرْتُ والدي بالكسر أبرَّهُ بِرَّاً فأنا بَرٌّ به و بَارٌّ ، وجمع البر
أبْرارٌ وجمع البَارِّ بررة ".
تَعْرِيفُ البِرِّ فِي السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ
عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ:
" سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ
وَالْإِثْمِ؟ فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي
صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ
" ( ).
قَالَ يَحْيَى بِن شَرَفٍ أَبِي زَكَرِيَّا النَّوَوِيِّ
فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" ( وَعَنِ النَّوَّاسِ ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ (
ابْنِ سَمْعَانَ ) : بِكَسْرِ
السِّينِ وَيُفْتَحُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ ( قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبِرِّ ) أَيِ : الطَّاعَةِ ( وَالْإِثْمِ )
أَيِ : الْمَعْصِيَةِ ( فَقَالَ
: الْبِرُّ ) أَيْ : أَعْظَمُ خِصَالِهِ أَوِ الْبِرُّ كُلُّهُ مُجْمَلًا ( حُسْنُ
الْخُلُقِ ) أَيْ : مَعَ الْخَلْقِ بِأَمْرِ الْحَقِّ أَوْ مُدَارَاةُ الْخَلْقِ ،
وَمُرَاعَاةُ الْحَقِّ . قِيلَ : فُسِّرَ الْبِرُّ فِي الْحَدِيثِ بِمَعَانٍ
شَتَّى فَفَسَّرَهُ فِي مَوْضِعٍ بِمَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ
وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَفَسَّرَهُ فِي مَوْضِعٍ بِالْإِيمَانِ ،
وَفِي مَوْضِعٍ بِمَا يُقَرِّبُكَ إِلَى اللَّهِ ، وَهُنَا بِحُسْنِ الْخُلُقِ ،
وَفُسِّرَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِاحْتِمَالِ الْأَذَى وَقِلَّةِ الْغَضَبِ وَبَسْطِ الْوَجْهِ
وَطِيبِ الْكَلَامِ ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى ذَكَرَهُ
الطِّيبِيُّ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : الْبِرُّ هُنَا الصِّلَةُ وَالتَّصَدُّقُ
وَالطَّاعَةُ ، وَيَجْمَعُهَا حُسْنُ الْخُلُقِ . وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ
: تَلْخِيصُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ : الْبِرُّ اسْمٌ
جَامِعٌ لِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَالْأَعْمَالِ الْمُقَرِّبَاتِ ، وَمِنْهُ بِرُّ
الْوَالِدَيْنِ ، وَهُوَ اسْتِرْضَاؤُهُمَا بِكُلِّ مَا أَمْكَنَ ، وَقَدْ قِيلَ :
إِنَّ الْبِرَّ مِنْ خَوَاصِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَيْ :
كَمَالُ الْبِرِّ إِذْ لَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُوجَدَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُوصَفُ
بِهِ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِمَا مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِقَوْلِهِ : حُسْنُ الْخُلُقِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ ،
وَالصُّحْبَةِ مَعَ الْخَلْقِ بِأَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُمْ أُسَرَاءُ الْأَقْدَارِ ،
وَإِنْ كَانَ مَا لَهُمْ مِنَ الْخُلُقِ وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْأَجَلِ بِمِقْدَارٍ
، فَيُحْسِنَ إِلَيْهِمْ حَسَبَ الِاقْتِدَارِ ، فَيَأْمَنُونَ مِنْهُ
وَيُحِبُّونَهُ بِالِاخْتِيَارِ . قُلْتُ : وَقَدْ أَشَارَ الشَّاطِبِيُّ إِلَى
هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ :
يُعَدُّ جَمِيعُ النَّاسِ مَوْلًى لِأَنَّهُمْ عَلَى مَا
قَضَاهُ اللَّهُ يَجْرُونَ أَفْعُلَا
هَذَا مَعَ الْخَلْقِ ، وَأَمَّا مَعَ الْخَالِقِ فَبِأَنْ
يَشْتَغِلَ بِجَمِيعِ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ ، وَيَأْتِيَ لِأَنْوَاعِ
الْفَضَائِلِ عَالِمًا بِأَنَّ كُلَّ مَا أَتَى مِنْهُ نَاقِصٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْعُذْرِ
، وَكُلَّ مَا صَدَرَ مِنَ الْحَقِّ كَامِلٌ يُوجِبُ الشُّكْرَ ، قُلْتُ :
وَإِلَيْهِ إِيمَاءٌ فِي قَوْلِ الشَّاطِبِيِّ
:
يَرَى نَفْسَهُ بِالذَّمِّ أَوْلَى لِأَنَّهَا عَلَى
الْمَجْدِ لَمْ تَلْعَقْ مِنَ الصَّبْرِ وَإِلَّا لَا
ثُمَّ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ بِدَوَامِ
الْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَدَوَامِ ذِكْرِهِ ،
حَتَّى يَكْتَحِلَ الْقَلْبُ بِنُورِ ذِكْرِ الذَّاتِ فَصَارَ بَحْرًا مَوَّاجًا
مِنْ نَسَمَاتِ الْقُرْبِ ، وَجَرَى فِي جَدَاوِلِ أَخْلَاقِ النَّفْسِ صَفَاءُ النُّعُوتِ
وَالصِّفَاتِ ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ نِهَايَةُ التَّحْقِيقِ بِعِنَايَةِ
التَّوْفِيقِ . ( وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ ) أَيْ : تَرَدَّدَ وَتَحَرَّكَ وَأَثَّرَ
( فِي صَدْرِكَ ) : وَرِوَايَةُ الْأَرْبَعِينَ
: فِي نَفْسِكَ بِأَنْ لَمْ تَنْشَرِحْ لَهُ وَحَلَّ فِي
الْقَلْبِ مِنْهُ الشَّكُّ وَالْخَوْفُ مِنْ كَوْنِهِ ذَنْبًا وَأَقْلَقَهُ وَلَمْ
يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ : يُرِيدُ أَنَّ الْإِثْمَ مَا
كَانَ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا يَنْشَرِحُ لَهُ الصَّدْرُ ، وَالْأَقْرَبُ
أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يَتَهَيَّأُ لِمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ
دُونَ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقَالَ شَارِحٌ
: يَعْنِي الْإِثْمَ مَا أَثَّرَ قُبْحُهُ فِي نَفْسِكَ أَيْ
تَرَدَّدَ فِي قَلْبِكَ وَلَمْ تُرِدْ أَنْ تُظْهِرَهُ لِكَوْنِهِ قَبِيحًا ،
وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ : ( وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ) أَيْ : أَعْيَانُهُمْ وَأَمْثَالُهُمْ
إِذِ الْجِنْسُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْسَ
بِطَبْعِهَا تُحِبُّ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى خَيْرِهَا ، فَإِذَا كَرِهْتَ
الِاطِّلَاعَ عَلَى بَعْضِ أَفْعَالِهَا فَهُوَ غَيْرُ مَا تُقَرَّبُ بِهِ إِلَى
اللَّهِ ، أَوْ غَيْرُ مَا أَذِنَ الشَّرْعُ فِيهِ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ
فِيهِ وَلَا بِرَّ ، فَهُوَ إِذًا إِثْمٌ وَشَرٌّ ( رَوَاهُ مُسْلِمٌ ) .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ .
. . الْحَدِيثَ ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ ، وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ
عَنِ النَّوَّاسِ ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَلَفْظُهُ :
الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ،
وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ لَهُ
الْقَلْبُ ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ ، هَذَا وُفِي الْأَرْبَعِينَ
لِلْإِمَامِ النَّوَوِيِّ عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ :
أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : " جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ ؟
" فَقُلْتُ : نَعَمْ ، فَقَالَ : " اسْتَفْتِ قَلْبَكَ ، الْبِرُّ مَا
اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَالْإِثْمُ
مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ
وَأَفْتَوْكَ " حَدِيثٌ حَسَنٌ رُوِّينَاهُ فِي مُسْنَدَيِ الْإِمَامَيْنِ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالدَّارِمِيِّ ، بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ .
قَالَ الطِّيبِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْمِشْكَاةِ :
مُرَاعَاةُ الْمُطَابَقَةِ تَقْتَضِي أَنَّ نَفْسَ حُسْنِ الْخُلُقِ بِمَا
يُقَابِلُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ ، وَهُوَ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ
وَالْقَلْبُ ، كَمَا فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ ، فَوُضِعَ مَوْضِعَهُ حُسْنُ
الْخُلُقِ لِيُؤْذِنَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ هُوَ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ
النَّفْسُ الشَّرِيفَةُ الطَّاهِرَةُ مِنْ أَوْضَارِ الذُّنُوبِ الْبَاطِنَةِ
وَالظَّاهِرَةِ ، وَتَبْدِيلِ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ مِنَ الصِّدْقِ فِي
الْمَقَالِ وَاللُّطْفِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ، أَحْسَنَ مُعَامَلَتَهُ
مَعَ الرَّحْمَنِ ، وَمُعَاشَرَتَهُ مَعَ الْإِخْوَانِ وَصِلَةَ الرَّحِمِ وَالسَّخَاءَ
وَالشَّجَاعَةَ أَقُولُ : الْأَحْسَنُ فِي تَحْصِينِ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ
الْقَرِينَتَيْنِ الْحُسْنَتَيْنِ أَنْ يُقَالَ
: الْمُرَادُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ مُسْتَحْسَنُ الطَّبْعِ
الْجِبِلِّيِّ الْفِطْرِيِّ الْعَارِي عَنِ التَّعَلُّقَاتِ التَّقْلِيدِيَّةِ وَالتَّقْيِيدَاتِ
الْعُرْفِيَّةِ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا خَلَى وَطَبْعُهُ الْأَصْلِيُّ
اخْتَارَ الْوَجْهَ الْأَحْسَنَ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ
، وَسَائِرِ الْأَحْوَالِ ، كَمَا حُقِّقَ فِي حَدِيثِ : " كُلُّ مَوْلُودٍ
يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ " وَحَاصِلُ الْجَوَابِ عَلَى طَرِيقِ
الِاسْتِيعَابِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَجْزِمَ الْعَقْلُ
بِاسْتِحْسَانِهِ ، أَوْ بِاسْتِقْبَاحِهِ ، أَوْ يَتَرَدَّدَ فِيمَا بَيْنَهُمَا
. فَالْأَوَّلُ هُوَ الْبِرُّ وَمَا عَدَاهُ هُوَ الْإِثْمُ ، وَهَذَا تَمْهِيدُ
قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ تَحْتَهَا مَسَائِلُ جُزْئِيَّةٌ فِيمَا لَمْ يُعْرَفْ مِنَ
الشَّرْعِ حُسْنُهُ وَقُبْحُهُ عَلَى طَرِيقِ الْيَقِينِ فِي الْعِلْمِيَّاتِ ، وَعَلَى
سَبِيلِ الظَّنِّ أَيْضًا فِي الْعَمَلِيَّاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . ( )
الوَصِيَّـــــــــــــــــــــــــــــــةُ بِبِرِّ
الوَالِدَينِ فِي كِتَـــــــــــــــــــــــــــــــــــابِ اللهِ
قَالَ مُحَمَّدُ الطَّاهِرُ ابن عَاشُورٍ ، وَ ذَلِكَ فِي
مُؤَلَّفِهِ المُسَمَّى بِالتَّحْرِيرِ وَ التَّنْوِيرِ
" وَقَدْ تَكَرَّرَتِ الْوِصَايَةُ بِبِرِّ
الْوَالِدَيْنِ فِي الْقُرْآنِ وَحَرَّضَ عَلَيْهَا النَّبِيُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَاطِنَ عَدِيدَةٍ فَكَانَ الْبِرُّ بِالْوَالِدَيْنِ
أَجْلَى مَظْهَرًا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا وَكَانَ مِنْ
بَرَكَاتِ أَهْلِهَا بِحَيْثُ لَمْ يَبْلُغُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مَبْلَغًا فِي أُمَّةٍ
مَبْلَغَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ " ( ).
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
حُسْنًا (6) وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا
تُطِعْهُمَا (7) إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(٨)﴾( )
قَالَ مُحَمَّدٌ بِن أَحْمَدٍ الأَنْصَارِيِّ القُرْطُبِيِّ
فِي تَفْسِيرِهَا
" قَوْلُهُ تَعَالَى : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي
الصَّالِحِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى
: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا نَزَلَتْ
فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِيمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ قَالَ : أُنْزِلَتْ
فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ فَذَكَرَ قِصَّةً ; فَقَالَتْ أُمُّ سَعْدٍ : أَلَيْسَ قَدْ
أَمَرَ اللَّهُ بِالْبِرِّ ، وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبُ
شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ ; قَالَ : فَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ
يُطْعِمُوهَا شَجَرُوا فَاهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا الْآيَةَ
. قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَرُوِيَ عَنْ سَعْدٍ
أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ بَارًّا بِأُمِّي فَأَسْلَمْتُ فَقَالَتْ : لَتَدَعَنَّ دِينَكَ
أَوْ لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ حَتَّى أَمُوتَ فَتُعَيَّرُ بِي وَيُقَالُ يَا
قَاتِلَ أُمِّهِ وَبَقِيَتْ يَوْمًا وَيَوْمًا فَقُلْتُ
: يَا أُمَّاهُ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ فَخَرَجَتْ
نَفْسًا نَفْسًا مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا ، فَإِنْ شِئْتِ فَكُلِي وَإِنْ شِئْتِ
فَلَا تَأْكُلِي . فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَكَلَتْ ، وَنَزَلَتْ : وَإِنْ جَاهَدَاكَ
لِتُشْرِكَ بِي الْآيَةَ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ فِي عَيَّاشِ بْنِ
أَبِي رَبِيعَةَ أَخِي أَبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ وَقَدْ فَعَلَتْ أُمُّهُ مِثْلَ
ذَلِكَ . وَعَنْهُ أَيْضًا : نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْأُمَّةِ إِذْ لَا يَصْبِرُ
عَلَى بَلَاءِ اللَّهِ إِلَّا صِدِّيقٌ . وَ (
حُسْنًا ) نُصِبَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى
التَّكْرِيرِ أَيْ وَوَصَّيْنَاهُ حُسْنًا . وَقِيلَ : هُوَ عَلَى الْقَطْعِ ،
تَقْدِيرُهُ : وَوَصَّيْنَاهُ
بِالْحُسْنِ ، كَمَا تَقُولُ : وَصَّيْتُهُ خَيْرًا . أَيْ بِالْخَيْرِ . وَقَالَ
أَهْلُ الْكُوفَةِ : تَقْدِيرُهُ : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ أَنْ يَفْعَلَ
حُسْنًا . فَيُقَدَّرُ لَهُ فِعْلٌ : وَقَالَ الشَّاعِرُ
:
عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إِذْ تَشْكُونَا وَمَنْ أَبِي
دَهْمَاءَ إِذْ يُوصِينَا
خَيْرًا بِهَا كَأَنَّمَا خَافُونَا
أَيْ يُوصِينَا أَنْ نَفْعَلَ بِهَا خَيْرًا ; كَقَوْلِهِ :
( فَطَفِقَ مَسْحًا ) أَيْ يَمْسَحُ مَسْحًا
. وَقِيلَ : تَقْدِيرُهُ : وَوَصَّيْنَاهُ أَمْرًا ذَا حُسْنٍ ، فَأُقِيمَتِ
الصِّفَةُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ ، وَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ
إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَقِيلَ : مَعْنَاهُ
أَلْزَمْنَاهُ حُسْنًا . وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ : ( حُسْنًا ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ السِّينِ
وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ : بِفَتْحِ الْحَاءِ
وَالسِّينِ وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ : ( إِحْسَانًا ) عَلَى الْمَصْدَرِ ;
وَكَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ التَّقْدِيرُ : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ أَنْ
يُحْسِنَ إِحْسَانًا وَلَا يَنْتَصِبَ بِ ( وَصَّيْنَا ) لِأَنَّهُ قَدِ
اسْتَوْفَى مَفْعُولَيْهِ . ( إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ) وَعِيدٌ فِي طَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ
فِي مَعْنَى الْكُفْرِ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ كَرَّرَ
تَعَالَى التَّمْثِيلَ بِحَالَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْعَامِلِينَ لِيُحَرِّكَ
النُّفُوسَ إِلَى نَيْلِ مَرَاتِبِهِمْ . وَقَوْلُهُ : لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي
الصَّالِحِينَ مُبَالَغَةٌ عَلَى مَعْنَى : فَالَّذِينَ هُمْ فِي نِهَايَةِ
الصَّلَاحِ وَأَبْعَدُ غَايَاتِهِ . وَإِذَا تَحَصَّلَ لِلْمُؤْمِنِ هَذَا
الْحُكْمُ تَحْصُلُ ثَمَرَتُهُ وَجَزَاؤُهُ وَهُوَ الْجَنَّةُ . " ( ).
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ
الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ
لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ
تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي
الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
﴾ (
).
قَوْلُ أَثِيرِ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ الله مُحَمَّدٍ بِن
يُوسُف الأَنْدَلُسِيِّ فِي تَفْسِيرِهَا
" يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ وَصِيَّةِ
لُقْمَانَ لِوَلَدِهِ - وَهُوَ : لُقْمَانُ بْنُ
عَنْقَاءَ بْنِ سَدُونَ . وَاسْمُ ابْنِهِ : ثَارَانُ فِي قَوْلٍ حَكَاهُ
السُّهَيْلِيُّ . وَقَدْ ذَكَرَهُ [ اللَّهُ ] تَعَالَى بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ ،
فَإِنَّهُ آتَاهُ الْحِكْمَةَ ، وَهُوَ يُوصِي وَلَدَهُ الَّذِي هُوَ أُشْفِقُ
النَّاسِ عَلَيْهِ وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ ، فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَمْنَحَهُ
أَفْضَلَ مَا يُعْرَفُ; وَلِهَذَا أَوْصَاهُ أَوَّلًا بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ
وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ، ثُمَّ قَالَ مُحَذِّرًا لَهُ : ( إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) أَيْ : هُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : ( الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) [ الْأَنْعَامِ : 82 ] ، شَقَّ ذَلِكَ
عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالُوا : أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ
بِظُلْمٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ ، أَلَا تَسْمَعَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ : ( يَا بُنَيَّ
لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
) .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ ، بِهِ .
ثُمَّ قَرَنَ بِوَصِيَّتِهِ إِيَّاهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ
وَحْدَهُ الْبَرَّ بِالْوَالِدَيْنِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( وَقَضَى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) [ الْإِسْرَاءِ : 23 ] . وَكَثِيرًا مَا
يَقْرِنُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ
.
وَقَالَ هَاهُنَا ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ) . قَالَ مُجَاهِدٌ : مَشَقَّةُ وَهْنِ
الْوَلَدِ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : جُهْدًا عَلَى جُهْدٍ .
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ : ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ .
وَقَوْلُهُ : ( وَفِصَالُهُ
فِي عَامَيْنِ ) أَيْ : تَرْبِيَتُهُ وَإِرْضَاعُهُ بَعْدَ وَضْعِهِ فِي عَامَيْنِ
، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) [ الْبَقَرَةِ : 233 ] .
وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَنْبَطَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ
مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ; لِأَنَّهُ
قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ
شَهْرًا ) [ الْأَحْقَافِ
: 15 ] .
وَإِنَّمَا يَذْكُرُ تَعَالَى تَرْبِيَةَ الْوَالِدَةِ
وَتَعَبَهَا وَمَشَقَّتَهَا فِي سَهَرِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ، لِيُذَكِّرَ
الْوَلَدَ بِإِحْسَانِهَا الْمُتَقَدِّمِ إِلَيْهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا
) [ الْإِسْرَاءِ : 24 ] ; وَلِهَذَا قَالَ : (
أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) أَيْ : فَإِنِّي
سَأَجْزِيكَ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ
.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ
قَالَا حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ
، وَكَانَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَامَ
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : إِنِّي [ رَسُولُ ] رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ : أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تُطِيعُونِي لَا آلُوكُمْ خَيْرًا ، وَأَنَّ
الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ ، وَإِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ ، إِقَامَةٌ
فَلَا ظَعْنَ ، وَخُلُودٌ فَلَا مَوْتَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ
جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا
تُطِعْهُمَا ) أَيْ : إِنْ حَرَصَا عَلَيْكَ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ
تُتَابِعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا ، فَلَا تَقْبَلْ مِنْهُمَا ذَلِكَ ، وَلَا
يَمْنَعَنَّكَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تُصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ، أَيْ
: مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا ، ( وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ) يَعْنِي :
الْمُؤْمِنِينَ ، ( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ ) .
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ الْعِشْرَةِ :
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ رَاشِدٍ ، حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ
، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ [ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ ] : أَنَّ
سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ : أُنْزِلَتْ فِيَّ هَذِهِ الْآيَةُ : ( وَإِنْ
جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا
تُطِعْهُمَا ) الْآيَةَ ، وَقَالَ : كُنْتُ رَجُلًا بَرًّا بِأُمِّي ، فَلَمَّا
أَسْلَمْتُ قَالَتْ : يَا سَعْدُ ، مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكَ قَدْ أَحْدَثْتَ ؟
لَتَدَعَنَّ دِينَكَ هَذَا أَوْ لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ حَتَّى أَمُوتَ ،
فَتُعَيَّرُ بِي ، فَيُقَالُ : " يَا
قَاتِلَ أُمِّهِ " . فَقُلْتُ : لَا تَفْعَلِي يَا أُمَّهْ ، فَإِنِّي لَا
أَدْعُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ . فَمَكَثَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَمْ تَأْكُلْ
فَأَصْبَحَتْ قَدْ جَهِدَتْ ، فَمَكَثَتْ يَوْمًا [ آخَرَ
] وَلَيْلَةً أُخْرَى لَا تَأْكُلْ ، فَأَصْبَحَتْ قَدِ
اشْتَدَّ جُهْدُهَا ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُلْتُ : يَا أُمَّهْ ،
تَعْلَمِينَ وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ فَخَرَجَتْ نَفْسًا
نَفْسًا ، مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ ، فَإِنْ شِئْتِ فَكُلِي ، وَإِنْ
شِئْتِ لَا تَأْكُلِي . فَأَكَلَتْ . " ( ).
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿وَ وَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ
إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ
وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾( )
قَالَ إِسْمَاعِيلُ بِن عُمَرٍ بِن كَثِيرٍ القُرَشِيِّ
الدِّمِشْقِيِّ فِي تَفْسِيرِهَا
" ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ
وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ ( 15 ) أُولَئِكَ
الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ
سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا
يُوعَدُونَ ( 16 ) ) .
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى
التَّوْحِيدَ لَهُ وَإِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ إِلَيْهِ ، عَطَفَ
بِالْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ ، كَمَا هُوَ مَقْرُونٌ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ
مِنَ الْقُرْآنِ ، كَقَوْلِهِ : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) [ الْإِسْرَاءِ : 23 ] وَقَالَ : ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ
الْمَصِيرُ ) [ لُقْمَانَ : 14 ] ،
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ . وَقَالَ هَاهُنَا : (
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ) أَيْ
: أَمَرْنَاهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَالْحُنُوِّ
عَلَيْهِمَا .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ : حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ ، أَخْبَرَنِي سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ : سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ
سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ قَالَ : قَالَتْ أُمُّ سَعْدٍ لِسَعْدٍ : أَلَيْسَ
قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ ، فَلَا آكُلُ طَعَامًا ، وَلَا
أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى تَكْفُرَ بِاللَّهِ . فَامْتَنَعَتْ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ
، حَتَّى جَعَلُوا يَفْتَحُونَ فَاهَا بِالْعَصَا ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ :
( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ) الْآيَةَ [ الْعَنْكَبُوتِ :
8 ] .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ إِلَّا ابْنَ
مَاجَهْ ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِإِسْنَادِهِ ، نَحْوَهُ وَأَطْوَلَ مِنْهُ .
( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ) أَيْ : قَاسَتْ بِسَبَبِهِ
فِي حَالِ حَمْلِهِ مَشَقَّةً وَتَعَبًا ، مِنْ وِحَامٍ وَغَشَيَانٍ وَثِقَلٍ وَكَرْبٍ
، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَنَالُ الْحَوَامِلُ مِنَ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ
، ( وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ) أَيْ : بِمَشَقَّةٍ أَيْضًا مِنَ الطَّلْقِ
وَشِدَّتِهِ ، ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا
)
وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلِيٌّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بِهَذِهِ
الْآيَةِ مَعَ الَّتِي فِي لُقْمَانَ : ( وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) [ لُقْمَانَ
: 14 ] ، وَقَوْلُهُ : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) [ الْبَقَرَةِ : 233 ] ،
عَلَى أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ
قَوِيٌّ صَحِيحٌ . وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ
عُثْمَانُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ ، عَنْ بَعْجَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْجُهَنِيِّ قَالَ : تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنَّا امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ ،
فَوَلَدَتْ لَهُ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَانْطَلَقَ زَوْجُهَا إِلَى
عُثْمَانَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا ، فَلَمَّا قَامَتْ
لِتَلَبِسَ ثِيَابَهَا بَكَتْ أُخْتُهَا ، فَقَالَتْ : مَا يُبْكِيكِ ؟ !
فَوَاللَّهِ مَا الْتَبَسَ بِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ غَيْرَهُ قَطُّ ،
فَيَقْضِي اللَّهُ فِيَّ مَا شَاءَ . فَلَمَّا
أُتِيَ بِهَا عُثْمَانُ أَمَرَ بِرَجْمِهَا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَأَتَاهُ
، فَقَالَ لَهُ : مَا تَصْنَعُ ؟ قَالَ : وَلَدَتْ تَمَامًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ،
وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ لَهُ [ عَلِيٌّ
] أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قَالَ : بَلَى . قَالَ : أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ
يَقُولُ : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا
) وَقَالَ : ( [ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ] حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ ) ، فَلَمْ
نَجِدْهُ بَقَّى إِلَّا سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، قَالَ : فَقَالَ عُثْمَانُ : وَاللَّهِ
مَا فَطِنْتُ لِهَذَا ، عَلَيَّ بِالْمَرْأَةِ فَوَجَدُوهَا قَدْ فُرِغَ مِنْهَا ،
قَالَ : فَقَالَ بَعْجَةُ : فَوَاللَّهِ
مَا الْغُرَابُ بِالْغُرَابِ ، وَلَا الْبَيْضَةُ بِالْبَيْضَةِ بِأَشْبَهَ مِنْهُ
بِأَبِيهِ . فَلَمَّا رَآهُ أَبُوهُ قَالَ :
ابْنِي إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَشُكُّ فِيهِ ، قَالَ :
وَأَبْلَاهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْقُرْحَةِ قُرْحَةِ الْأَكَلَةِ ، فَمَا زَالَتْ تَأْكُلُهُ
حَتَّى مَاتَ .
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ مِنْ
وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ : ( فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) [ الزُّخْرُفِ
: 81 ] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
: حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي
الْمَغْرَاءِ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي
هِنْدٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إِذَا وَضَعَتِ
الْمَرْأَةُ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ كَفَاهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ
شَهْرًا ، وَإِذَا وَضَعَتْهُ لِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ كَفَاهُ مِنَ الرَّضَاعِ ثَلَاثَةٌ
وَعِشْرُونَ شَهْرًا ، وَإِذَا وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَحَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ
: ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا )
( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) أَيْ : قَوِيَ وَشَبَّ
وَارْتَجَلَ ( وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) أَيْ : تَنَاهَى عَقْلُهُ وَكَمُلَ
فَهْمُهُ وَحِلْمُهُ . وَيُقَالُ
: إِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ غَالِبًا عَمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ ابْنُ الْأَرْبَعِينَ .
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ،
عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : قُلْتُ لِمَسْرُوقٍ : مَتَى
يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِذُنُوبِهِ ؟ قَالَ : إِذَا بَلَغْتَ الْأَرْبَعِينَ ، فَخُذْ
حِذْرَكَ .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ : حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ الْقَوَارِيرِيُّ ، حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ قَيْسٍ
الْأَزْدِيُّ - وَكَانَ قَدْ بَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ - حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ
السَّلُولِيُّ عَنْهُ وَزَادَنِي قَالَ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
عُثْمَانَ ، عَنْ عُثْمَانَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ : " الْعَبْدُ
الْمُسْلِمُ إِذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً خَفَّفَ اللَّهُ حِسَابَهُ ، وَإِذَا
بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ إِلَيْهِ ، وَإِذَا بَلَغَ
سَبْعِينَ سَنَةً أَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، وَإِذَا بَلَغَ ثَمَانِينَ سَنَةً
ثَبَّتَ اللَّهُ حَسَنَاتِهِ وَمَحَا سَيِّئَاتِهِ ، وَإِذَا بَلَغَ تِسْعِينَ
سَنَةً غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، وَشَفَّعَهُ
اللَّهُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ ، وَكُتِبَ فِي السَّمَاءِ أَسِيرَ اللَّهِ فِي
أَرْضِهِ " .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ ، وَهُوَ
فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .
وَقَدْ قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ
أَحَدُ أُمَرَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ بِدِمَشْقَ : تَرَكْتُ الْمَعَاصِيَ
وَالذُّنُوبَ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَيَاءً مِنَ النَّاسِ ، ثُمَّ تَرَكْتُهَا
حَيَاءً مِنَ اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ .
وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّاعِرِ
:
صَبَا مَا صَبَا حَتَّى عَلَا الشَّيْبُ رَأْسَهُ فَلَمَّا
عَلَاهُ قَالَ لِلْبَاطِلِ : ابْطُلِ
( قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي ) أَيْ : أَلْهِمْنِي ( أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ
أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ) أَيْ : فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، ( وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي ) أَيْ : نَسْلِي وَعَقِبِي ، ( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ ) وَهَذَا فِيهِ إِرْشَادٌ لِمَنْ بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ أَنْ
يُجَدِّدَ التَّوْبَةَ وَالْإِنَابَةَ إِلَى اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، وَيَعْزِمُ
عَلَيْهَا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَلِّمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي التَّشَهُّدِ : "
اللَّهُمَّ ، أَلِّفْ بَيْنِ قُلُوبِنَا ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا ،
وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ،
وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَبَارِكْ لَنَا فِي
أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا ، وَأَزْوَاجِنَا ، وَذُرِّيَّاتِنَا ،
وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، وَاجَعَلْنَا
شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ ، مُثْنِينَ بِهَا قَابِلِيهَا ، وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا " .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ
أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ) أَيْ : هَؤُلَاءِ
الْمُتَّصِفُونَ بِمَا ذَكَرْنَا ، التَّائِبُونَ إِلَى اللَّهِ الْمُنِيبُونَ
إِلَيْهِ ، الْمُسْتَدْرِكُونَ مَا فَاتَ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ، هُمُ الَّذِينَ
يَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ
، فَيَغْفِرُ لَهُمُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ ، وَيَتَقَبَّلُ مِنْهُمُ
الْيَسِيرَ مِنَ الْعَمَلِ ، ( فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ) أَيْ : هُمْ فِي
جُمْلَةِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ، وَهَذَا حُكْمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا وَعَدَ
اللَّهُ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( وَعْدَ الصِّدْقِ
الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ )
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ ،
عَنِ الْغِطْرِيفِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الرُّوحِ الْأَمِينِ
، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، قَالَ : " يُؤْتَى
بِحَسَنَاتِ الْعَبْدِ وَسَيِّئَاتِهِ ، فَيَقْتَصُّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، فَإِنْ
بَقِيَتْ حَسَنَةٌ وَسَّعَ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ
" قَالَ : فَدَخَلْتُ عَلَى يَزْدَادَ فَحَدَّثَ
بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ : قُلْتُ : فَإِنْ ذَهَبَتِ الْحَسَنَةُ ؟ قَالَ
: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا
وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ
الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيِّ ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ
سُلَيْمَانَ ، بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ - وَزَادَ عَنِ الرُّوحِ الْأَمِينِ . قَالَ
: قَالَ الرَّبُّ ، جَلَّ جَلَالُهُ : يُؤْتَى بِحَسَنَاتِ الْعَبْدِ
وَسَيِّئَاتِهِ . . . فَذَكَرَهُ ، وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، وَإِسْنَادٌ جَيِّدٌ
لَا بَأْسَ بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدٍ ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكَلَّائِيُّ ،
حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ
، عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ : وَنَزَلَ فِي دَارِي
حَيْثُ ظَهَرَ عَلِيٌّ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، فَقَالَ لِي يَوْمًا : لَقَدْ
شَهِدْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا ، وَعِنْدَهُ عَمَّارٌ وَصَعْصَعَةُ
وَالْأَشْتَرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، فَذَكَرُوا عُثْمَانَ فَنَالُوا
مِنْهُ ، وَكَانَ عَلِيٌّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَلَى السَّرِيرِ ، وَمَعَهُ
عُودٌ فِي يَدِهِ ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : إِنَّ عِنْدَكُمْ مَنْ يَفْصِلُ
بَيْنَكُمْ ، فَسَأَلُوهُ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : كَانَ عُثْمَانُ مِنَ الَّذِينَ
قَالَ اللَّهُ : ( أُولَئِكَ
الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ
سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا
يُوعَدُونَ ) قَالَ : وَاللَّهِ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُ عُثْمَانَ - قَالَهَا
ثَلَاثًا - قَالَ يُوسُفُ : فَقُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ : آللَّهِ
لَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ ؟ قَالَ :
آللَّهِ لَسَمِعْتُ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ " .
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا
يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا
أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ
لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا
رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) ﴾
قَالَ إِسْمَاعِيلُ بِن عُمَرٍ بِن كَثِيرٍ القُرَشِيِّ
الدِّمِشْقِيِّ فِي تَفْسِيرِهَا
" الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا
أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ( 23 ) )
يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ حَكَمَ رَبُّكَ يَا
مُحَمَّدُ بِأَمْرِهِ إِيَّاكُمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ، فَإِنَّهُ
لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( وَقَضَى رَبُّكَ ) وَإِنْ كَانَ مَعْنًى جَمِيعِهِمْ فِي
ذَلِكَ وَاحِدًا .
ذِكْرُ مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ : حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ
دَاوُدَ ، قَالَ : ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، قَالَ : ثَنِي مُعَاوِيَةُ
، عَنْ عَلِيٍّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ ) يَقُولُ : أَمَرَ .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ
، قَالَ : ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ سَلَامٍ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ
، فَقَالَ : إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ، فَقَالَ : إِنَّكَ عَصَيْتَ
رَبَّكَ ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : قَضَى اللَّهُ
ذَلِكَ عَلَيَّ ، قَالَ الْحَسَنُ ، وَكَانَ فَصِيحًا : مَا قَضَى اللَّهُ : أَيْ
مَا أَمَرَ اللَّهُ ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) فَقَالَ النَّاسُ : تَكَلَّمَ الْحَسَنُ فِي
الْقَدْرِ .
حَدَّثَنَا بِشْرٌ ، قَالَ : ثَنَا يَزِيدُ ، قَالَ : ثَنَا
سَعِيدٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ، قَوْلُهُ ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ ) : أَيْ أَمَرَ رَبُّكَ فِي أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ،
فَهَذَا قَضَاءُ اللَّهِ الْعَاجِلُ ، وَكَانَ يُقَالُ فِي بَعْضِ الْحِكْمَةِ :
مَنْ أَرْضَى وَالِدَيْهِ : أَرْضَى خَالِقَهُ ، وَمَنْ أَسْخَطَ وَالِدَيْهِ ، فَقَدْ
أَسْخَطَ رَبَّهُ .
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ ، عَنْ
مَعْمَرٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ( وَقَضَى
رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) قَالَ : أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ ، وَفِي حِرَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ
: ( وَصَّى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ )
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : ثَنَا يَحْيَى بْنُ
عِيسَى ، قَالَ : ثَنَا نُصَيْرُ بْنُ أَبِي الْأَشْعَثِ ، قَالَ : ثَنِي ابْنُ
حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَعْطَانِي ابْنُ عَبَّاسٍ
مُصْحَفًا ، فَقَالَ : هَذَا
عَلَى قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ : قَالَ
يَحْيَى : رَأَيْتُ الْمُصْحَفَ عِنْدَ نُصَيْرٍ فِيهِ : (
وَوَصَّى رَبُّكَ ) يَعْنِي : وَقَضَى رَبُّكَ
.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ، قَالَ : ثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ
: ثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ( وَقَضَى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) قَالَ : وَأَوْصَى رَبُّكَ .
حَدَّثَنِي يُونُسُ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ،
قَالَ : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ ، فِي قَوْلِهِ ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ ) قَالَ : أَمَرَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ .
حَدَّثَنِي الْحَرْثُ ، قَالَ : ثَنَا الْقَاسِمُ ، قَالَ :
ثَنَا هُشَيْمٌ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْكُوفِيِّ ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ
مُزَاحِمٍ ، أَنَّهُ قَرَأَهَا ( وَوَصَّى
رَبُّكَ ) وَقَالَ : إِنَّهُمْ أَلْصَقُوا الْوَاوَ بِالصَّادِّ فَصَارَتْ قَافًا .
وَقَوْلُهُ ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) يَقُولُ : وَأَمَرَكُمْ بِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِمَا وَتَبِرُّوهُمَا . وَمَعْنَى الْكَلَامِ :
وَأَمَرَكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ ، فَلَمَّا حُذِفَتْ "
أَنْ " تَعَلُّقَ الْقَضَاءُ بِالْإِحْسَانِ ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ
: آمُرُكَ بِهِ خَيِّرًا ، وَأُوصِيكَ بِهِ خَيْرًا ، بِمَعْنَى : آمُرُكَ أَنْ
تَفْعَلَ بِهِ خَيْرًا ، ثُمَّ تُحْذَفُ " أَنْ " فَيَتَعَلَّقُ
الْأَمْرُ وَالْوَصِيَّةُ بِالْخَبَرِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إِذْ تَشْكُونَا وَمِنْ أَبِي
دَهْمَاءَ إِذْ يُوصِينَا
خَيْرًا بِهَا كَأَنَّنَا جَافُونَا
وَعَمَلٌ يُوصِينَا فِي الْخَيْرِ
.
وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ( إِمَّا
يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ) فَقَرَأَ ذَلِكَ
عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهَّلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ ، وَبَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ
( إِمَّا يَبْلُغَنَّ ) عَلَى التَّوْحِيدِ عَلَى تَوْجِيهٍ ذَلِكَ إِلَى
أَحَدِهِمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَاحِدٌ ، فَوَحَّدُوا
( يَبْلُغَنَّ ) لِتَوْحِيدِهِ ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ ( أَوْ
كِلَاهُمَا ) مَعْطُوفًا
عَلَى الْأَحَدِ . وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ ( إِمَّا
يَبْلُغَانِ ) عَلَى التَّثْنِيَةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِهَا ، وَقَالُوا
: قَدْ ذَكَرَ الْوَالِدَانِ قَبْلُ ، وَقَوْلُهُ ( يَبْلُغَانِّ ) خَبَرٌ
عَنْهُمَا بَعْدَ مَا قَدَّمَ أَسْمَاءَهُمَا ، قَالُوا : وَالْفِعْلُ إِذَا جَاءَ
بَعْدَ الِاسْمِ كَانَ الْكَلَامُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ
خَبَرٌ عَنِ اثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَةٍ . قَالُوا : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ
خَبَرٌ عَنِ اثْنَيْنِ فِي الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ . قَالُوا : وَقَوْلُهُ ( أَحَدُهُمَا أَوْ
كِلَاهُمَا ) كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ ، كَمَا قِيلَ ( فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ
تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ) وَكَقَوْلِهِ ( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ) ثُمَّ ابْتَدَأَ
فَقَالَ ( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) .
وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي فِي
ذَلِكَ ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ ( إِمَّا يَبْلُغَنَّ ) عَلَى التَّوْحِيدِ
عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَحَدِهِمَا ، لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنِ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ
فِي الْوَالِدَيْنِ ، قَدْ تَنَاهَى عِنْدَ قَوْلِهِ
( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) ثُمَّ ابْتَدَأَ قَوْلَهُ
( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ) .
وَقَوْلُهُ ( فَلَا تَقُلْ لَهُمَا
أُفٍّ ) يَقُولُ : فَلَا تُؤَفِّفُ مِنْ شَيْءٍ تَرَاهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ
مِنْهُمَا مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ ، وَلَكِنِ اصْبِرْ عَلَى ذَلِكَ
مِنْهُمَا ، وَاحْتَسِبْ فِي الْأَجْرِ صَبْرَكَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا ، كَمَا
صَبَرَا عَلَيْكَ فِي صِغَرِكَ .
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ ، قَالَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، قَالَ : ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَبَّبٍ ، قَالَ : ثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ
مُجَاهِدٍ ، فِي قَوْلِهِ ( فَلَا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ) قَالَ : إِنْ بَلَغَا عِنْدَكَ مِنَ
الْكِبَرِ مَا يَبُولَانِ وَيَخْرَآنِ ، فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ
تُقَذِّرُهُمَا .
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ، قَالَ : ثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ
: ثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ إِمَّا يَبْلُغَانَّ
عِنْدَكَ الْكِبَرَ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ حِينَ تَرَى الْأَذَى ، وَتُمِيطُ
عَنْهُمَا الْخَلَاءَ وَالْبَوْلَ ، كَمَا كَانَا يُمِيطَانِهِ عَنْكَ صَغِيرًا ،
وَلَا تُؤْذِهِمَا .
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ
فِي مَعْنَى " أُفٍّ " ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ :
كُلُّ مَا غَلُظَ مِنَ الْكَلَامِ وَقَبُحَ . وَقَالَ
آخَرُونَ : الْأُفُّ : وَسَخُ
الْأَظْفَارِ ، وَالْتَفُّ : كُلُّ مَا رَفَعَتْ يَدُكَ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ
شَيْءٍ حَقِيرٍ ، وَلِلْعَرَبِ فِي " أُفٍّ " لُغَاتٌ سِتٌّ رَفْعُهَا بِالتَّنْوِينِ
وَغَيْرِ التَّنْوِينِ وَخَفْضُهَا كَذَلِكَ وَنَصْبُهَا ، فَمَنْ خَفَضَ ذَلِكَ
بِالتَّنْوِينِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، شَبَّهَهَا
بِالْأَصْوَاتِ الَّتِي لَا مَعْنَى لَهَا ، كَقَوْلِهِمْ فِي حِكَايَةِ الصَّوْتِ
غَاقٍ غَاقٍ ، فَخَفَضُوا الْقَافَ وَنَوَّنُوهَا ، وَكَانَ حُكْمُهَا السُّكُونَ
، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ يُعْرِبُهَا مِنْ أَجْلِ مَجِيئِهَا بَعْدَ حَرْفٍ سَاكِنٍ
وَهُوَ الْأَلْفُ ، فَكَرِهُوا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ سَاكِنِينَ ، فَحَرَّكُوا
إِلَى أَقْرَبِ الْحَرَكَاتِ مِنَ السُّكُونِ ، وَذَلِكَ الْكَسْرُ ، لِأَنَّ
الْمَجْزُومَ إِذَا حُرِّكَ ، فَإِنَّمَا يُحَرَّكُ إِلَى الْكَسْرِ ، وَأَمَّا
الَّذِينَ خَفَضُوا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قُرَّاءِ
الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إِنَّمَا يُدْخِلُونَ
التَّنْوِينَ فِيمَا جَاءَ مِنَ الْأَصْوَاتِ نَاقِصًا ، كَالَّذِي يَأْتِي عَلَى
حَرْفَيْنِ مِثْلُ : مَهٍ
وَصَهٍ وَبَخٍ ، فَيُتَمِّمُ بِالتَّنْوِينِ لِنُقْصَانِهِ عَنْ أَبْنِيهِ
الْأَسْمَاءِ . قَالُوا : وَأُفٍّ تَامٌّ لَا حَاجَةَ بِهَا إِلَى تَتَمَتِّهِ
بِغَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ
.
قَالُوا : وَإِنَّمَا كَسَرْنَا الْفَاءَ الثَّانِيَةَ لِئَلَّا
نَجْمَعَ بَيْنَ سَاكِنِينَ . وَأَمَّا مَنْ ضَمَّ وَنَوَّنَ ، فَإِنَّهُ قَالَ :
هُوَ اسْمٌ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُعَرَّفُ وَلَيْسَ بِصَوْتٍ ،
وَعَدَلَ بِهِ عَنِ الْأَصْوَاتِ ، وَأَمَّا مَنْ ضَمَّ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ
، فَإِنَّهُ قَالَ : لَيْسَ هُوَ بِاسَمٍ مُتَمَكِّنٍ فَيُعْرَبُ بِإِعْرَابِ
الْأَسْمَاءِ الْمُتَمَكِّنَةِ ، وَقَالُوا : نَضُمُّهُ كَمَا نَضُمُّ قَوْلَهُ (
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ) ، وَكَمَا نَضُمُّ الِاسْمَ فِي
النِّدَاءِ الْمُفْرَدِ ، فَنَقُولُ : يَا زَيْدُ . وَمَنْ نَصَبَهُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ
، وَهُوَ قِرَاءَةُ بَعْضِ الْمَكِّيِّينَ وَأَهْلِ الشَّامِ فَإِنَّهُ شَبَّهَهُ
بِقَوْلِهِمْ : مُدَّ يَا هَذَا وَرُدَّ . وَمَنْ نَصَبَ بِالتَّنْوِينِ ،
فَإِنَّهُ أَعْمَلَ الْفِعْلَ فِيهِ ، وَجَعَلَهُ اسْمًا صَحِيحًا ، فَيَقُولُ :
مَا قُلْتُ لَهُ أُفًّا وَلَا تُفًّا . وَكَانَ
بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ : قُرِئَتْ : أُفَّ ، " وَأُفًّا " لُغَةٌ
جَعَلُوهَا مِثْلَ نَعْتِهَا . وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ
" أُفٌّ " ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ
الْعَرَبِ يَقُولُ : " أُفٌّ لَكَ " عَلَى الْحِكَايَةِ : أَيْ لَا
تَقُلْ لَهُمَا هَذَا الْقَوْلَ . قَالَ
: وَالرَّفْعُ قَبِيحٌ ، لِأَنَّهُ لِمَ يَجِئْ بَعْدَهُ
بِلَامٍ ، وَالَّذِينَ قَالُوا : " أُفِّ " فَكَسَرُوا كَثِيرٌ ، وَهُوَ
أَجْوَدُ . وَكَسَرَ
بَعْضُهُمْ وَنَوَّنَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : " أُفِّي
" ، كَأَنَّهُ أَضَافَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى
نَفْسِهِ ، فَقَالَ : أُفِّي هَذَا لَكُمَا ، وَالْمَكْسُورُ مِنْ هَذَا مُنَوَّنٌ
وَغَيْرُ مُنَوَّنٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ ، نَحْوَ أَمْسِ وَمَا
أَشْبَهَهُ ، وَالْمَفْتُوحُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ كَذَلِكَ . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ
الْعَرَبِيَّةِ : كُلُّ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ السِّتِّ تَدْخُلُ فِي " أُفٍّ " حِكَايَةَ تَشَبُّهٍ
بِالِاسْمِ مَرَّةً وَبِالصَّوْتِ أُخْرَى . قَالَ
: وَأَكْثَرُ مَا تُكْسَرُ الْأَصْوَاتُ بِالتَّنْوِينِ إِذَا
كَانَتْ عَلَى حَرْفَيْنِ مِثْلَ صَهٍ وَمَهٍ وَبَخٍ ، وَإِذَا كَانَتْ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ شُبِّهَتْ بِالْأَدَوَاتِ " أَفَّ " مِثْلُ : لَيْتَ
وَمَدَّ ، وَأُفٍّ مِثْلُ مُدٍّ يُشَبَّهُ بِالْأَدَوَاتِ . وَإِذَا قَالَ أَفَّ مِثْلُ
صَهَّ . وَقَالُوا : هِعْتَ مِضِّ يَا هَذَا وَمِضُّ . وَحُكِيَ عَنِ الْكِسَائِي
أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ " مَا عَلَّمَكَ أَهْلُكَ إِلَّا مِضٍّ وَمِضُّ
" ، وَهَذَا كَإِفٍّ وَأُفُّ . وَمَنْ قَالَ
: " أُفًّا " جَعْلَهُ مِثْلَ سُحْقًا
وَبُعْدًا .
وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ عِنْدِي فِي قِرَاءَةِ
ذَلِكَ ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ ( فَلَا
تَقُلْ لَهُمَا أُفِّ ) بِكَسْرِ الْفَاءِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ لِعِلَّتَيْنِ :
إِحْدَاهُمَا : أَنَّهَا أَشْهَرُ اللُّغَاتِ فِيهَا وَأَفْصَحُهَا عِنْدَ
الْعَرَبِ; وَالثَّانِيَةُ : أَنْ حَظَّ كُلِّ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَرَّبٌ
مِنَ الْكَلَامِ السُّكُونُ; فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ . وَكَانَتِ الْفَاءُ
فِي أُفِّ حَظُّهَا الْوُقُوفُ ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ
لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنِينَ فِيهِ ، وَكَانَ حُكْمُ السَّاكِنِ إِذَا حُرِّكَ أَنْ
يُحَرَّكَ إِلَى الْكَسْرِ حُرِّكَتْ إِلَى الْكَسْرِ ، كَمَا قِيلَ : مُدِّ
وَشُدِّ وَرُدِّ الْبَابَ .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَنْهَرْهُمَا ) يَقُولُ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ : وَلَا تَزْجُرْهُمَا .
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْأَحْمَسَيُّ ، قَالَ : ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ ، قَالَ : ثَنَا وَاصِلٌ
الرَّقَاشِيُّ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، فِي قَوْلِهِ ( فَلَا تَقُلْ
لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ) قَالَ : لَا تَنْفُضْ يَدَكَ عَلَى
وَالِدَيْكَ ، يُقَالُ مِنْهُ : نَهَرَهُ يَنْهَرُهُ نَهْرًا ، وَانْتَهَرَهُ يَنْتَهِرُهُ
انْتِهَارًا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ( وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا )
فَإِنَّهُ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا جَمِيلًا حَسَنًا .
كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ، قَالَ
: ثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : ثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ ( وَقُلْ
لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ) قَالَ : أَحْسَنَ مَا تَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ .
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ، قَالَ : ثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ
: ثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارٍ
، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (
قَوْلًا كَرِيمًا ) قَالَا : لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ يُرِيدَانِهِ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَهَذَا الْحَدِيثُ خَطَأٌ ،
أَعْنِي حَدِيثَ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، إِنَّمَا هُوَ عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، لَيْسَ فِيهِ عُمَرُ ، حَدَّثَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ
وَغَيْرِهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ
.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ ، قَالَ : ثَنَا يَزِيدُ ،
قَالَ : ثَنَا
سَعِيدٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ( وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا
) : أَيْ قَوْلًا لَيِّنًا سَهْلًا .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ :
ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، مِثْلَهُ .
حَدَّثَنِي يُونُسُ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ،
قَالَ : ثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ عِمْرَانَ ، عَنْ أَبِي الْهَدَّاجِ التَّجِيبِيِّ
، قَالَ : قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ : كُلُّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ ، فَقَدْ عَرَفْتُهُ ، إِلَّا قَوْلَهُ
( وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ) مَا هَذَا الْقَوْلُ الْكَرِيمُ؟ فَقَالَ
ابْنُ الْمُسَيَّبِ : قَوْلُ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ( 24 ) )
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ : وَكُنْ لَهُمَا ذَلِيلًا
رَحْمَةً مِنْكَ بِهِمَا تُطِيعُهُمَا فِيمَا أَمَرَاكَ بِهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ
لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ ، وَلَا تَخَالِفْهُمَا فِيمَا أَحَبَّا
.
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ ، قَالَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
:
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ، قَالَ : ثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ ، قَالَ : ثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ
أَبِيهِ ، فِي قَوْلِهِ : ( وَاخْفِضْ
لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) قَالَ : لَا تَمْتَنِعُ مِنْ شَيْءٍ
يُحِبَّانِهِ .
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : ثَنَا الْأَشْجَعِيُّ
، قَالَ : سَمِعْتُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، فِي قَوْلِهِ (
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) قَالَ : هُوَ أَنْ تَلِينَ
لَهُمَا حَتَّى لَا تَمْتَنِعَ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ
.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الْحَكَمِ ، قَالَ : ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُوِيدٍ ، قَالَ
: ثَنَا الثَّوْرِيُّ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ
أَبِيهِ ، فِي قَوْلِهِ ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ )
قَالَ : لَا
تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ .
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ ، قَالَ : ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ
أَبِيهِ ، فِي قَوْلِهِ ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ )
قَالَ : هُوَ أَنْ لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ يُرِيدَانِهِ
.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : ثَنَا الْمُقْرِئُ
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ ، عَنْ أَبِي
الْهَدَّاجِ ، قَالَ : قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ : مَا قَوْلُهُ (
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) قَالَ : أَلَمْ تَرَ إِلَى
قَوْلِ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ الْغَلِيظِ . وَالذُّلُّ
بِضَمِّ الذَّالِ وَالذِّلَّةُ مَصْدَرَانِ مِنَ الذَّلِيلِ ، وَذَلِكَ أَنْ
يَتَذَلَّلَ ، وَلَيْسَ بِذَلِيلٍ فِي الْخِلْقَةِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : قَدْ ذَلَلْتُ
لَكَ أُذِلُّ ذِلَّةً وَذُلًّا وَذَلِكَ نَظِيرُ الْقِلِّ وَالْقِلَّةِ ، إِذَا
أُسْقِطَتِ الْهَاءُ ضُمَّتِ الذَّالُ مِنَ الذُّلِّ ، وَالْقَافُ مِنَ الْقُلِّ ،
وَإِذَا أُثْبِتَتِ الْهَاءُ كُسِرَتِ الذَّالُ مِنَ الذِّلَّةِ ، وَالْقَافُ مِنَ
الْقِلَّةِ ، لِمَا قَالَ الْأَعْشَى :
وَمَا كُنْتُ قُلًّا قَبْلَ ذَلِكَ أَزْيَبَا
يُرِيدُ : الْقِلَّةُ ، وَأَمَّا
الذِّلُّ بِكَسْرِ الذَّالِ وَإِسْقَاطِ الْهَاءِ فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ
الذَّلُولِ مِنْ قَوْلِهِمْ : دَابَّةٌ ذَلُولٌ
: بَيِّنَةُ الذُّلِّ ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ لَيِّنَةٌ
غَيْرُ صَعْبَةٍ .
وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ( هُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ) يُجْمَعُ ذَلِكَ ذُلُلًا كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ
( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ) . وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ
أَنَّهُ لَا يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكَتْهُ
.
وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ ،
فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ ( وَاخْفِضْ
لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ ) بِضَمِّ الذَّالِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ الذَّلِيلِ
. وَقَرَأَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَاصِمُ الْجَحْدَرِيُّ : ( جَنَاحَ
الذِّلِّ ) بِكَسْرِ الذَّالِ .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : ثَنَا بِهَزُ بْنُ
أَسَدٍ ، قَالَ : ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَ ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ )
قَالَ : كُنْ
لَهُمَا ذَلِيلًا وَلَا تَكُنْ لَهُمَا ذَلُولًا
.
حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عُمَرُ
بْنُ شَقِيقٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ
عَاصِمًا الْجَحْدَرِيَّ يَقْرَأُ ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذِّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ ) قَالَ : كُنْ لَهُمَا ذَلِيلًا وَلَا تَكُنْ لَهُمَا ذَلُولًا .
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ، قَالَ : ثَنَا عُمَرُ بْنُ
شَقِيقٍ ، عَنْ عَاصِمٍ ، مِثْلَهُ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي
تَأَوَّلَهُ عَاصِمٌ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُ بِضَمِّ الذَّالِ
لَا بِكَسْرِهَا وَبِكَسْرِهَا .
حَدَّثَنَا نَصْرٌ وَابْنُ بَشَّارٍ ، وَحُدِّثْتُ عَنِ
الْفَرَّاءِ ، قَالَ : ثَنِي هُشَيْمٌ ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ
. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، أَنَّهُ قَرَأَ ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ
الذِّلِّ ) قَالَ الْفَرَّاءُ : وَأَخْبَرَنِي
الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبَى النَّجُودِ ، أَنَّهُ
قَرَأَهَا الذِّلِّ أَيْضًا ، فَسَأَلْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ : الذِّلُّ
قَرَأَهَا عَاصِمٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ
( وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )
فَإِنَّهُ يَقُولُ : ادْعُ اللَّهَ لِوَالِدَيْكَ بِالرَّحْمَةِ ، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا
، وَتَعَطَّفْ عَلَيْهِمَا بِمَغْفِرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ ، كَمَا تَعَطَّفَا
عَلَيَّ فِي صِغَرِي ، فَرَحِمَانِي وَرَبَّيَانِي صَغِيرًا ، حَتَّى
اسْتَقْلَلْتُ بِنَفْسِي ، وَاسْتَغْنَيْتُ عَنْهُمَا
.
كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ ، قَالَ : ثَنَا يَزِيدُ ، قَالَ :
ثَنَا سَعِيدٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) هَكَذَا عُلِّمْتُمْ
، وَبِهَذَا أُمِرْتُمْ ، خُذُوا تَعْلِيمَ اللَّهِ وَأَدَبَهُ ، ذُكِرَ لَنَا
" أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ ذَاتَ
يَوْمٍ وَهُوَ مَادٌّ يَدَيْهِ رَافِعٌ صَوْتَهُ يَقُولُ : مَنْ أَدْرَكَ
وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَبْعَدَهُ
اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ " . وَلَكِنْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مَنْ بَرَّ
وَالِدَيْهِ ، وَكَانَ فِيهِ أَدْنَى تُقًى ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُبَلِّغُهُ جَسِيمَ
الْخَيْرِ ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّ قَوْلَ اللَّهِ
جَلَّ ثَنَاؤُهُ ( وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )
مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ ( مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
:
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : ثَنَا أَبُو
صَالِحٍ ، قَالَ : ثَنِي مُعَاوِيَةُ ، عَنْ عَلِيٍّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ،
قَوْلَهُ ( وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) ثُمَّ
أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ هَذَا ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : ثَنَا يَحْيَى بْنُ
وَاضِحٍ ، قَالَ : ثَنَا الْحُسَيْنُ ، عَنْ يَزِيدَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، قَالَ
فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( إِمَّا يَبْلُغَانِّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ) . . . . إِلَى قَوْلِهِ ( وَقُلْ رَبِّ
ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي
بَرَاءَةٍ ( مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) . . . الْآيَةَ
.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ، قَالَ : ثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ
: ثَنِي حَجَّاجٌ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ
، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ( وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا ) . . . . الْآيَةَ ، قَالَ :
نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي بَرَاءَةٍ ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) . . . الْآيَةَ .
وَقَدْ تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْآيَةُ أَنْ تَكُونَ وَإِنْ
كَانَ ظَاهِرُهَا عَامًّا فِي كُلِّ الْآبَاءِ بِغَيْرِ مَعْنَى النَّسْخِ ،
بِأَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهَا عَلَى الْخُصُوصِ ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ :
وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا إِذَا كَانَا مُؤْمِنَيْنِ ، كَمَا رَبَّيَانِي
صَغِيرًا ، فَتَكُونُ مُرَادًا بِهَا الْخُصُوصُ عَلَى مَا قُلْنَا غَيْرُ
مَنْسُوخٍ مِنْهَا شَيْءٌ . وَعَنَى بِقَوْلِهِ رَبَّيَانِي : نَمَّيَانِي . " ( )
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (36)
﴾
قَالَ مُحَمَّدُ الطَّاهِرِ بِن عَاشُورٍ فِي تَفْسِيرِهَا
" قَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي وَجْهِ اتِّصَالِ
الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا مَا نَصُّهُ : وَلَمَّا
كَثُرَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْوَصَايَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هُنَا
نَتِيجَةَ التَّقْوَى ( كَذَا
) الْعَدْلُ وَالْفَضْلُ وَالتَّرْغِيبُ فِي نُوَالِهِ ، وَالتَّرْهِيبُ مِنْ
نَكَالِهِ ، إِلَى أَنْ خَتَمَ ذَلِكَ بِإِرْشَادِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى
الْمُعَامَلَةِ بِالْحُسْنَى ، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِمَا هُوَ فِي الذُّرْوَةِ مِنْ
حُسْنِ الْخِتَامِ مِنْ صِفَتَيِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي
مَعْنَى مَا خَتَمَ بِهِ الْآيَةَ الْآمِرَةَ بِالتَّقْوَى مِنَ الْوَصْفِ
بِالرَّقِيبِ ، اقْتَضَى ذَلِكَ تَكْرِيرَ التَّذْكِيرِ بِالتَّقْوَى الَّتِي
افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِالْأَمْرِ بِهَا فَكَانَ التَّقْدِيرُ حَتْمًا
فَاتَّقُوهُ ، عُطِفَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى نَحْوِ : وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ
فَضْلِهِ ( 4 : 32 ) ،
أَوْ عَلَى : اتَّقُوا رَبَّكُمْ ( 4 : 1 ) ، الْخَلْقُ الْمَقْصُودُ مِنَ
الْخَلْقِ الْمَبْثُوثِينَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ الْخَالِصَةُ
الَّتِي هِيَ الْإِحْسَانُ فِي مُعَامَلَةِ الْخَالِقِ ، وَأَتْبَعَهَا
الْإِحْسَانَ فِي مُعَامَلَةِ الْخَلَائِقِ ، فَقَالَ : وَاعْبُدُوا اللَّهَ
إِلَخْ ، وَأَقُولُ : إِنَّهُ
أَبْعَدُ فِي الْعَطْفِ ، وَأَحْسَنُ فِي التَّرْتِيبِ وَالْوَصْفِ .
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ
الْأَحْكَامِ كَانَ خَاصًّا بِنِظَامِ الْقَرَابَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ ، وَحَالِ الْبُيُوتِ
الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْهَا الْأُمَّةُ ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ
تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْخُصُوصِيَّةِ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَنَا عَلَى بَعْضِ
الْحُقُوقِ الْعُمُومِيَّةِ ، وَهِيَ الْعِنَايَةُ بِكُلِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ
الْعِنَايَةَ ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ مِنَ النَّاسِ ، فَبَدَأَ ذَلِكَ
بِالْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى ، وَعِبَادَتُهُ مِلَاكُ حِفْظِ الْأَحْكَامِ
وَالْعَمَلِ بِهَا ، وَهِيَ الْخُضُوعُ لَهُ تَعَالَى ، وَتَمْكِينُ هَيْبَتِهِ
وَخَشْيَتِهِ مِنَ النَّفْسِ ، وَالْخُشُوعُ لِسُلْطَانِهِ فِي السِّرِّ
وَالْجَهْرِ ، فَمَتَى كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ يُقِيمُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ
وَغَيْرَهَا حَتَّى تَصْلُحَ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ النِّيَّةُ
عِنْدَنَا تَجْعَلُ الْأَعْمَالَ الْعَادِيَّةَ عِبَادَاتٍ ، كَالزَّارِعِ
لِيُقِيمَ أَمْرَ بَيْتِهِ وَيَعُولَ مَنْ يُمَوِّنُهُ ، وَيُفِيضَ مِنْ فَضْلِ
كَسْبِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَيُسَاعِدَ عَلَى الْأَعْمَالِ
ذَاتِ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ ، فَعَمَلُهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ يَجْعَلُ حَرْثَهُ
مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ فَلَيْسَتِ الْعِبَادَةُ فِي قَوْلِهِ هُنَا :
وَاعْبُدُوا اللَّهَ خَاصَّةً بِالتَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ "
الْجَلَالُ " ، بَلْ هِيَ عَامَّةٌ كَمَا قُلْنَا تَشْمَلُ التَّوْحِيدَ
وَجَمِيعَ مَا يَمُدُّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ
.
وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ ، أَوْ
شَيْئًا مِنَ الْإِشْرَاكِ ( قَالَ ) : اخْتَلَفَ تَعْبِيرُهُمْ وَالْمَعْنَى
وَاحِدٌ ، وَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِهِ ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ
يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ التَّعْطِيلِ بِالْأَوْلَى ، أَقُولُ : يَعْنِي أَنَّ الشِّرْكَ هُوَ الْخُضُوعُ
لِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْخَلْقِ
بِأَنْ يُرْجَى صَاحِبُهَا وَيُخْشَى مِنْهُ مَا تَعْجِزُ الْمَخْلُوقَاتُ عَنْ
مِثْلِهِ ، وَهَذِهِ السُّلْطَةُ لَا تَكُونُ لِغَيْرِهِ تَعَالَى فَلَا يُرْجَى غَيْرُهُ
، وَلَا يُخْشَى سِوَاهُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ وَرَاءَ
الْأَسْبَابِ الْمَقْدُورَةِ لِلْمَخْلُوقِينَ عَادَةً ; لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ
بِهِ تَعَالَى فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ غَيْرَهُ يُشْرِكُهُ فِيهِ كَانَ مُؤْمِنًا
مُشْرِكًا وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ( 12
: 106 ) ، وَأَمَّا التَّعْطِيلُ فَهُوَ إِنْكَارُ الْأُلُوهِيَّةِ أَلْبَتَّةَ ،
أَيْ إِنْكَارُ تِلْكَ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ كُلِّ
قُوَّةٍ وَتَصَرُّفٍ ، وَفَوْقَ كُلِّ قُوَّةٍ وَتَصَرُّفٍ ، فَإِذَا نَهَى تَعَالَى
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ غَيْرُهُ فِيمَا اسْتَأْثَرَ بِهِ مِنَ السُّلْطَةِ
وَالْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنَ الْهِبَاتِ الَّتِي
مَنَحَهَا خَلْقَهُ وَعُرِفَتْ مِنْ سُنَنِهِ فِيهِمْ ، فَلَأَنْ يَنْهَى عَنْ
إِنْكَارِ وَجُودِهِ وَجَحْدِ أُلُوهِيَّتِهِ يَكُونُ أَوْلَى .
قَالَ : وَالْإِشْرَاكُ قَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ بَعْضُ
ضُرُوبِهِ عِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ، وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ
بِاتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ وَشُفَعَاءَ وَوُسَطَاءَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ،
يُقَرِّبُونَ الْمُتَوَسِّلَ بِهِمْ إِلَيْهِ ، وَيَقْضُونَ الْحَاجَاتِ عِنْدَهُ
كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُمْ ،
وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا
يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ
اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا
فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 10 : 18 ) ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ
اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ( 39 : 3
) .
وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ دَخَلَ عَلَيْهِمُ
الشِّرْكُ ، فَالنَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
وَبَعْضُهُمْ عَبَدَ أُمَّهُ السَّيِّدَةَ مَرْيَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ،
وَقَالَ اللَّهُ فِي الْفَرِيقَيْنِ : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ ( 9 : 31 ) ،
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْفُوعِ : أَنَّهُ كَانُوا يَضَعُونَ لَهُمْ
أَحْكَامَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَيَتْبَعُونَهُمْ فِيهَا ، وَسَبَقَ ذِكْرُ
ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ غَيْرَ مَرَّةٍ ، ( قَالَ ) : فَالشِّرْكُ أَنْوَاعٌ
وَضُرُوبٌ ، أَدْنَاهَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ
الْعِبَادَةُ لِغَيْرِ اللَّهِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَهُ ، وَأَشَدُّهَا
وَأَقْوَاهَا مَا سَمَّاهُ اللَّهُ دُعَاءً وَاسْتِشْفَاعًا ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ
بِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَتَوْسِيطُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ تَعَالَى ،
فَالْقُرْآنُ نَاطِقٌ بِهَذَا ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ السِّيَرِ
وَالتَّارِيخِ ، فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ ، وَأَقْوَى
مَظَاهِرِهِ الَّتِي يَتَجَلَّى فِيهَا مَعْنَاهُ أَتَمَّ التَّجَلِّي ، وَهُوَ
الَّذِي لَا يَنْفَعُ مَعَهُ صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا عِبَادَةٌ أُخْرَى .
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الشِّرْكَ قَدْ فَشَا فِي
الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ ، وَأَوْرَدَ شَوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ عَنِ
الْمُعْتَقِدِينَ الْغَالِينَ فِي الْبَدَوِيِّ " شَيْخِ الْعَرَبِ " وَ
" الدُّسُوقِيِّ " وَغَيْرِهِمَا لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ ،
وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ يُؤَوِّلُونَ لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا
يَتَكَلَّفُونَ الِاعْتِذَارَ لَهُمْ لَزَحْزَحَتِهُمْ عَنْ شِرْكٍ جَلِيٍّ
وَاضِحٍ إِلَى شِرْكٍ أَقَلَّ مِنْهُ جَلَاءً وَوُضُوحًا ، وَلَكِنَّهُ شِرْكٌ
ظَاهِرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ الَّذِي
وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ ، الَّذِي لَا يَكَادُ يَسْلَمُ
مِنْهُ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ ، وَمِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ الْمُؤْمِنُ الْعَمَلَ
الصَّالِحَ مِنَ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُحِبُّ أَنْ يُمْدَحَ عَلَيْهِ أَوْ
يَتَلَذَّذَ بِالْمَدْحِ عَلَيْهِ ( مَثَلًا ) . أَقُولُ : ثُمَّ عَقَّبَ
الْأَمْرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ بِالْوَصِيَّةِ
لِلْوَالِدَيْنِ فَقَالَ : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أَيْ : وَأَحْسِنُوا
بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا تَامًّا لَا تُقَصِّرُوا فِي شَيْءٍ مِنْهُ ، يُقَالُ
: أَحْسَنَ بِهِ وَأَحْسَنَ لَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ ، وَقِيلَ : إِذَا تَعَدَّى
الْإِحْسَانُ بِالْبَاءِ يَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِمَعْنَى الْعَطْفِ ، وَعِنْدِي
أَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْبَاءِ أَبْلَغُ لِإِشْعَارِهَا بِإِلْصَاقِ الْإِحْسَانِ
بِمَنْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِشْعَارٍ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحْسِنِ
، وَالتَّعْدِيَةُ بِـ " إِلَى " تُشْعِرُ بِطَرَفَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ
يَصِلُ الْإِحْسَانُ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ
.
وَالْإِحْسَانُ فِي الْمُعَامَلَةِ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ
، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَطَبَقَاتِهِمْ ، وَإِنَّ
الْعَامِّيَّ الْجَاهِلَ لَيَدْرِي كَيْفَ يُحْسِنُ إِلَى وَالِدَيْهِ
وَيُرْضِيهِمَا مَا لَا يَدْرِي الْعَالِمُ النِّحْرِيرُ إِذَا أَرَادَ أَنْ
يُحَدِّدَ لَهُ ذَلِكَ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ جِمَاعَ الْإِحْسَانِ
الْمَأْمُورِ بِهِ أَنْ يَقُومَ بِخِدْمَتِهِمَا وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ
عَلَيْهِمَا وَلَا يَخْشُنَ فِي الْكَلَامِ مَعَهُمَا ، وَأَنْ يَسْعَى فِي
تَحْصِيلِ مَطَالِبِهِمَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ سَعَتِهِ ،
وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَلْقَاهُمَا إِلَّا عَابِسًا
مُقَطِّبًا ، أَوْ أَدَّى النَّفَقَةَ الَّتِي يَحْتَاجَانِ إِلَيْهَا ، وَهُوَ
يُظْهِرُ الْفَاقَةَ وَالْقِلَّةَ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مُحْسِنًا بِهِمَا ، فَالتَّعْلِيمُ
الْحَرْفِيُّ لَا يُحَدِّدُ الْإِحْسَانَ الْمَطْلُوبَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ ، بَلِ
الْعُمْدَةُ فِيهِ اجْتِهَادُ الْمَرْءِ وَإِخْلَاصُ قَلْبِهِ فِي تَحَرِّي ذَلِكَ
بِقَدْرِ طَاقَتِهِ ، وَحَسَبِ فَهْمِهِ ، لِأَكْمَلِ الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ التَّفْصِيلِيِّ
فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا
وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ
لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ( 17 : 23 - 25 ) ، فَأَنْتَ تَرَى الرَّبَّ الْعَلِيمَ الْحَكِيمَ
الرَّحِيمَ قَدْ قَفَّى هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْبَلِيغَةَ الدَّقِيقَةَ بِبَيَانِ
أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا فِي نَفْسِ الْوَلَدِ مِنْ قَصْدِ الْبِرِّ
وَالْإِحْسَانِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ ، وَأَنَّ التَّقْصِيرَ مَعَ هَذَا مَرْجُوُّ
الْغُفْرَانِ ، وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ
كَالْغَزَالِيِّ فِي " الْإِحْيَاءِ
" ، وَابْنِ حَجَرٍ فِي " الزَّوَاجِرِ " .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ :
الْخِطَابُ لِعُمُومِ الْأَفْرَادِ ، أَيْ : لِيُحْسِنْ
كُلٌّ لِوَالِدَيْهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ فِي وُجُودِ الْوَلَدِ
بِمَا بَذَلَا مِنَ الْجُهْدِ وَالطَّاقَةِ فِي تَرْبِيَتِهِ بِكُلِّ رَحْمَةٍ
وَإِخْلَاصٍ ، وَقَدْ بَيَّنَتْ كُتُبُ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مَا
لِلْوَالِدَيْنِ مِنْ حُقُوقِ النَّفَقَةِ ، وَبَيَّنَتْ كُتُبُ الدِّينِ جَمِيعَ
الْحُقُوقِ ، وَالْمُرَادُ بِكُتُبِ الدِّينِ كُتُبُ آدَابِهِ "
كَالْإِحْيَاءِ " لِلْغَزَالِيِّ وَيَجْمَعُ هَذِهِ الْحُقُوقَ كُلَّهَا
آيَتَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ ـ وَذَكَرَهُمَا وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِمَا قَلِيلًا .
وَأَقُولُ : إِنَّ هَاهُنَا مَسْأَلَةً مُهِمَّةً ،
قَلَّمَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَائِنَا بَيَّنَهَا كَمَا يَنْبَغِي ، وَهُوَ
أَنَّ بَعْضَ الْوَالِدَيْنِ يَتَعَذَّرُ إِرْضَاؤُهُمَا بِمَا يَسْتَطِيعُهُ
أَوْلَادُهُمَا مِنَ الْإِحْسَانِ ، بَلْ يُكَلِّفُونَ الْأَوْلَادَ مَا لَا
طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ ، وَمَا أَعْجَبَ حِكْمَةَ اللَّهِ فِي خَلْقِ هَذَا
الْإِنْسَانِ ، قَلَّمَا تَجْدُ ذَا سُلْطَةٍ لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ فِي
سُلْطَتِهِ حَتَّى الْوَالِدَيْنِ عَلَى أَوْلَادِهِمَا ، وَهُمَا اللَّذَانِ
آتَاهُمُ الْفَاطِرُ مِنَ الرَّحْمَةِ الْفِطْرِيَّةِ مَا لَمْ يُؤْتِ سِوَاهُمَا
، قَدْ تَظْلِمُ الْأُمُّ وَلَدَهَا قَلِيلًا مَغْلُوبَةً لِبَادِرَةِ الْغَضَبِ ،
أَوْ طَاعَةً لِمَا يَعْرِضُ مِنْ أَسْبَابِ الْهَوَى ، كَأَنْ تَتَزَوَّجَ
رَجُلًا تُحِبُّهُ وَهُوَ يَكْرَهُ وَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ ، وَكَأَنْ يَقَعَ
التَّغَايُرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ امْرَأَةِ وَلَدِهَا ، وَتَرَاهُ شَدِيدَ
الْحُبِّ لِامْرَأَتِهِ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُغْضِبَهَا لِأَجْلِ مَرْضَاتِهَا
هِيَ ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ قَلَّمَا تَرْضَى الْأُمُّ بِالْعَدْلِ
وَتَعْذُرُ وَلَدَهَا فِي خُضُوعِهِ لِسُلْطَانِ الْحُبِّ ، وَإِنْ هُوَ لَمْ
يُقَصِّرْ فِيمَا يَجِبُ لَهَا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ ، بَلْ تَأْخُذُهَا
عِزَّةُ الْوَالِدِيَّةِ ، حَتَّى تَسْتَلَّ مِنْ صَدْرِهَا حَنَانَ الْأُمُومَةِ
، وَيَطْغَى فِي نَفْسِهَا سُلْطَانُ اسْتِعْلَائِهَا عَلَى وَلَدِهَا ، وَلَا
يُرْضِيهَا إِلَّا أَنْ يَهْبِطَ مِنْ جَنَّةِ سَعَادَةِ الزَّوْجِيَّةِ
لِأَجْلِهَا ، وَرُبَّمَا تَلْتَمِسُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ زَوْجًا
أُخْرَى يَنْفِرُ مِنْهَا طَبْعُهُ ، وَمَا حِيلَتُهُ وَقَدْ سُلِبَ مِنْهُ قَلْبُهُ
، كَمَا أَنَّهَا تَظْلِمُهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ بِمِثْلِ هَذَا الِاخْتِيَارِ
، وَظُلْمُ الْآبَاءِ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِ الْأُمَّهَاتِ ، وَلَا تَجِبُ
طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا ، وَيَا وَيْحَ الْوَلَدِ الَّذِي
يُصَابُ بِمِثْلِهِمَا ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَا جَاهِلَيْنِ بَلِيدَيْنِ
يَتَعَذَّرُ إِقْنَاعُهُمَا .
وَلَعَلَّكَ إِذَا دَقَّقْتَ النَّظَرَ فِي أَخْبَارِ
الْبَشَرِ لَا تَجِدُ فِيهَا أَغْرَبَ مِنْ تَحَكُّمِ الْوَالِدَيْنِ فِي
تَزْوِيجِ الْأَوْلَادِ بِمَنْ يَكْرَهُونَ ، أَوْ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى تَطْلِيقِ
مَنْ يُحِبُّونَ ، ثَبَتَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ " أَنَّ
الثَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا " ، فَلَيْسَ لِأَبِيهَا
وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا أَنْ يَعْقِدُوا لَهَا إِلَّا عَلَى مَنْ
تَخْتَارُهُ وَتَرْضَاهُ لِنَفْسِهَا ; لِأَنَّهَا لِمُمَارَسَتِهَا الرِّجَالَ تَعْرِفُ
مَصْلَحَتَهَا ، وَأَنَّ الْبِكْرَ عَلَى حَيَائِهَا وَغَرَارَتِهَا ، وَعَدَمِ
اخْتِبَارِهَا وَعِلْمِ مَا يَعْلَمُ الْأَبُ الرَّحِيمُ مِنْ مَصْلَحَتِهَا ،
يَجِبُ أَنْ تُسْتَأْذَنَ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا ، وَيُكْتَفَى مِنْ إِذْنِهَا
بَصِمَاتِهَا ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تُظْهِرِ الرِّضَى بَلْ صَرَّحَتْ
بِعَدَمِهِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا ، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ :
إِنَّ الْأَبَ وَلِيٌّ مُجْبَرٌ كَالشَّافِعِيَّةِ اشْتَرَطُوا فِي صِحَّةِ تَزْوِيجِهِ
لِابْنَتِهِ بِدُونِ إِذْنِهَا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا ، وَأَنْ
يَكُونَ مُوسِرًا بِالْمَهْرِ حَالًا ، وَأَلَّا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ
عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا خَفِيَّةٌ ، وَأَلَّا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
الْوَلِيِّ الْعَاقِدِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ ، فَهَذَا قَوْلُهُمْ فِي الْعَذْرَاءِ
الْمُخَدَّرَةِ ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ أَبِيهِ بِتَزْوِيجِ
نَفْسِهِ إِجْمَاعًا وَلَيْسَ لِأَبِيهِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، فَكَيْفَ
يَتَحَكَّمُ الْوَالِدُ فِي وَلَدِهِ بِمَا لَا يَحْكُمُ بِهِ الشَّرْعُ وَلَا
تَرْضَى بِهِ الْفِطْرَةُ ؟ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ ظُلْمِ الِاسْتِعْلَاءِ الَّذِي يُوهِمُ
الرَّجُلَ أَنَّ ابْنَهُ كَعَبْدِهِ ، يَجِبُ أَلَّا يَكُونَ لَهُ مَعَهُ رَأْيٌ ،
وَلَا اخْتِيَارٌ فِي أَمْرِهِ ، لَا فِي حَاضِرِهِ وَلَا فِي مُسْتَقْبَلِهِ
الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِدُ جَاهِلًا بَلِيدًا ،
وَالْوَلَدُ عَالِمًا رَشِيدًا ، وَعَاقِلًا حَكِيمًا ؟ وَالْوَيْلُ كُلَّ
الْوَيْلِ لِلْوَلَدِ إِذَا كَانَ وَالِدُهُ الْجَهُولُ الظَّلُومُ غَنِيًّا ،
وَكَانَ هُوَ مُعْوِزًا فَقِيرًا ، فَإِنَّ وَالِدَهُ يَدِلُّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ
بِسُلْطَتَيْنِ ، وَيُحَارِبُهُ بِسِلَاحَيْنِ ، لَا يَهُولَنَّكَ أَيُّهَا
السَّعِيدُ بِالْأَبَوَيْنِ الرَّحِيمَيْنِ مَا أَذْكُرُ مِنْ ظُلْمِ بَعْضِ الْوَالِدِينَ
الْجَاهِلِينَ الْقُسَاةِ ، فَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا لَا
تَعْلَمُ ، إِنِّي لَأَعْرِفُ مَا لَا تَعْرِفُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَّهَاتِ
اللَّوَاتِي تَحَكَّمْنَ فِي أَمْرِ زَوَاجِ بَنَاتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ
تَحَكُّمًا كَانَ سَبَبَ الْمَرَضِ الْقَتَّالِ ، وَالدَّاءِ الْعُضَالِ ،
فَالْمَوْتِ الزُّؤَامِ ، ثُمَّ نَدِمْنَ نَدَامَةَ الْكَسْعَى وَلَاتَ سَاعَةَ
مَنْدَمٍ ، وَلَعَلَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ تَحَكُّمَ الْآبَاءِ فِي ذَلِكَ أَشَدُّ
وَأَضَرُّ ، وَأَدْهَى وَأَمَرُّ ، عَلَى أَنَّهُ أَكْثَرُ
.
وَمِنْ ضُرُوبِ ظُلْمِ الْوَالِدَيْنِ الْجَاهِلَيْنِ
لِلْوَلَدِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ : مَنْعُهُ
مِنَ اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِهِ فِي تَرْقِيَةِ نَفْسِهِ فِي الْعُلُومِ
وَالْأَعْمَالِ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى السَّفَرِ
وَالتَّرْحَالِ ، وَالْأَمْثِلَةُ وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا
فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ، وَأَوَّلُ مَا خَطَرَ فِي بَالِي مِنْهَا عِنْدَ
الْكِتَابَةِ الْآنَ اثْنَانِ : شَابٌّ عَاشِقٌ لِلْعِلْمِ كَانَ أَبُوهُ
يَمْنَعُهُ مِنْهُ لِيَشْتَغِلَ بِالتِّجَارَةِ الَّتِي يَنْفِرُ مِنْهَا
لِتَوَجُّهِ اسْتِعْدَادِهِ إِلَى الْعِلْمِ ، فَفَرَّ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى قُطْرٍ
آخَرَ ، ثُمَّ إِلَى قُطْرٍ آخَرَ ، يَرْكَبُ الْأَهْوَالَ ، وَيُصَارِعُ
أَنْوَاءَ الْبِحَارِ ، وَيُعْجِمُ عُودَ الذُّلِّ وَالضُّرِّ ، وَيَذُوقُ طُعُومَ
الْجُوعِ وَالْفَقْرِ ، وَرَجُلٌ دُعِيَ إِلَى دَارٍ خَيْرٍ مِنْ دَارِهِ ،
وَقَرَارٍ أَشْرَفَ مِنْ قَرَارِهِ ، وَرِزْقٍ أَوْسَعَ مِنْ رِزْقِهِ ، فِي
عَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَأَمَلٍ فِي الْكَمَالِ أَعْلَى مِنْ سَابِقِ
أَمَلِهِ ، وَرَجَاءٍ فِي ثَوَابِ اللَّهِ أَعْظَمَ مِنْ رَجَائِهِ ،
فَاسْتَشْرَفَتْ لَهُ نَفْسُهُ ، وَاطْمَأَنَّ بِهِ قَلْبُهُ ، وَلَكِنَّ
وَالِدَتَهُ مَنَعَتْهُ أَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ وَيَقْبَلَ النِّعْمَةَ ، لَا
حُبًّا فِيهِ ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُمَارِيَ فِي أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ
لَهُ ، وَلَكِنْ حُبًّا فِي نَفْسِهَا ، وَإِيثَارًا لِلَذَّتِهَا وَأُنْسِهَا ،
نَعَمْ إِنَّ الْعَجُوزَ أَلِفَتْ بَيْتَهَا وَمَنْ تُعَاشِرُ فِي بَلَدِهَا مِنَ
الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ ، فَآثَرَتْ لَذَّةَ الْبِيئَةِ الدُّنْيَا لِنَفْسِهَا ،
عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْعُلْيَا لِوَلَدِهَا ، وَلَعَلَّهُ لَوِ اخْتَارَ
الظَّعْنَ لَاخْتَارَتِ الْإِقَامَةَ ، وَفَضَّلَتْ فِرَاقَهُ عَلَى صُحْبَتِهِ ،
وَبُعْدَهُ عَلَى قُرْبِهِ ، وَنَبَزَتْهُ بِلَقَبِ الْعَاقِّ ، وَادَّعَتْ
أَنَّهَا لَمْ تَتَعَدَّ حُدُودَ الرَّحْمَةِ وَالْحَنَانِ ، وَوَافَقَهَا
الْجُمْهُورُ الْجَاهِلُ عَلَى ذَلِكَ لِبِنَائِهِ الْأَحْكَامَ عَلَى
الْمُسَلَّمَاتِ ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأَوْلَادَ هُمُ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ
أَهْوَاءَهُمْ عَلَى بِرِّ وَالِدَيْهِمْ ، وَأَنَّ الْوَالِدَيْنِ لَا
يَخْتَارَانِ لِوَلَدِهِمَا إِلَّا مَا فِيهِ الْخَيْرُ لَهُ ، وَأَنَّهُمَا
يَتْرُكَانِ كُلَّ حُظُوظِهِمَا وَرَغَائِبِهِمَا لِأَجْلِهِ ، وَلَا يُنْكِرُ
أَحَدٌ أَنَّ لِهَذَا أَصْلًا صَحِيحًا ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ
الدَّائِمَةِ ، أَمَّا الْأُمُّ فَذَلِكَ شَأْنُهَا مَعَ الطِّفْلِ إِلَّا مَا
تَأْتِي بِهِ بَوَادِرُ الْغَضَبِ مِنْ لَطْمَةٍ خَفِيفَةٍ تَسْبِقُ بِهَا الْيَدُ
مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ ، أَوْ دَعْوَةٍ ضَعِيفَةٍ تُعَدُّ مِنْ
فَلَتَاتِ اللِّسَانِ ، وَلِسَانُ حَالِهَا يُنْشِدُ
:
أَدْعُو عَلَيْهِ وَقَلْبِي يَقُولُ : يَا رَبِّ لَا لَا
فَإِذَا كَبِرَ وَصَارَ لَهُ رَأْيٌ غَيْرُ رَأْيِهَا ،
وَهَوًى غَيْرُ هَوَاهَا ـ وَذَلِكَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ـ تَغَيَّرَ شَأْنُهَا
مَعَهُ ، وَهِيَ أَشَدُّ النَّاسِ حُبًّا لَهُ ، فَلَا تُرَجِّحُ رَأْيَهُ
وَهَوَاهُ فِي كُلِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، بَلْ لَا تَعْذُرُهُ أَيْضًا فِي
كُلِّ مَا يَتْبَعُ فِيهِ وُجْدَانَهُ ، وَيُرَجِّحُ فِيهِ اسْتِقْلَالَهُ ،
وَأَمَّا الْأَبُ فَهُوَ عَلَى فَضْلِهِ وَعِنَايَتِهِ بِأَمْرِ وَلَدِهِ أَضْعَفُ
مِنَ الْأُمِّ حُبًّا وَرَحْمَةً وَإِيثَارًا ، وَأَشَدُّ اسْتِنْكَارًا لِاسْتِقْلَالِ
وَلَدِهِ دُونَهُ وَاسْتِكْبَارًا ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقْسُو عَلَيْهِ وَيُؤْذِيهِ
، وَيَشْمَتُ بِهِ وَيَحْرِمُهُ مِنْ مَالِهِ وَيُؤْثِرُ الْأَجَانِبَ عَلَيْهِ ،
وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْأَبِ الْغَنِيِّ مَعَ وَلَدِهِ
الْمُحْتَاجِ إِذَا خَالَفَ هَوَاهُ : كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ
رَآهُ اسْتَغْنَى ( 96 : 6 ، 7 ) ، وَإِنَّ طُغْيَانَهُ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ
مَا يَرَى لِنَفْسِهِ مِنَ السُّلْطَةِ وَالْفَضْلِ وَالِاسْتِعْلَاءِ حَتَّى
إِنَّهُ لِيَنْتَحِلُّ لِنَفْسِهِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَيَتَسَلَّقُ بِغُرُورِهِ
إِلَى ادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ : وَقَدْ كُنْتُ أُنْكِرُ عَلَى أَبِي الطَّيِّبِ
قَوْلَهُ :
وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ذَا
عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لَا يَظْلِمُ
وَأَعُدُّهُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ الشِّعْرِيَّةِ حَتَّى
كِدْتُ بَعْدَ إِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِي أَحْوَالِ الْوَالِدَيْنِ مَعَ
الْأَوْلَادِ وَتَدَبُّرِ مَا أَحْفَظُ مِنَ الْوَقَائِعِ فِي ذَلِكَ ، أُجْزِمُ
بِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا صَحِيحٌ مُطَّرِدٌ ، فَكَمْ رَأَيْنَا مِنْ غَنِيٍّ قَدِ
انْغَمَسَ فِي التَّرَفِ وَالنَّعِيمِ ، وَأَفَاضَ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ
، وَغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّينَ ، وَلَهُ مِنَ الْوَلَدِ مَنْ يَعِيشُ فِي الْبُؤْسِ
وَالضَّنْكِ ، وَلَا يَنَالُهُ مِنْ وَالِدِهِ لَمَاجٌ وَلَا مُجَاجٌ مِنْ ذَلِكَ
الرِّزْقِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَعَبْدِ الرِّقِّ .
إِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّ النَّاسَ غَافِلُونَ
عَنْهُ ، فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ وَصَايَا الْوَالِدَيَنِ حُجَّةٌ ، عَلَى أَنَّ
لِلْوَالِدَيْنِ أَنْ يَعْبَثَا بِاسْتِقْلَالِ الْوَلَدِ مَا شَاءَ هَوَاهُمَا ،
وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَالِفَ رَأْيَ وَالِدَيْهِ وَلَا هَوَاهُمَا
، وَإِنْ كَانَ هُوَ عَالِمًا وَهُمَا جَاهِلَيْنِ بِمَصَالِحِهِ ، وَبِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ
وَالْمِلَّةِ ، وَهَذَا الْجَهْلُ الشَّائِعُ مِمَّا يَزِيدُ الْآبَاءَ
وَالْأُمَّهَاتِ إِغْرَاءً بِالِاسْتِبْدَادِ فِي سِيَاسَتِهِمْ لِلْأَوْلَادِ
فَيَحْسَبُونَ أَنَّ مَقَامَ الْوَالِدِيَّةِ يَقْتَضِي بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ
رَأْيُ الْوَلَدِ وَعَقْلُهُ وَفَهْمُهُ دُونَ رَأْيِ وَالِدَيْهِ وَعَقْلِهِمَا
وَفَهْمِهِمَا ، كَمَا يَحْسَبُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ الْمُسْتَبِدُّونَ
أَنَّهُمْ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ رَعَايَاهُمْ عَقْلًا وَفَهْمًا
وَرَأْيًا ، أَوْ يَحْسَبُ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ أَنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ
رَأْيِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ أَفِينًا عَلَى رَأْيِ أَوْلَادِهِمْ وَرَعَايَاهُمْ
وَإِنْ كَانَ حَكِيمًا .
إِذَا طَالَ الْأَمَدُ عَلَى هَذَا الْجَهْلِ الْفَاشِي فِي
أُمَّتِنَا فَإِنَّ الْأُمَمَ الَّتِي تُرَبِّي أَوْلَادَهَا عَلَى
الِاسْتِقْلَالِ الشَّخْصِيِّ تَسْتَعْبِدُ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعُوبِنَا خَارِجًا
عَنْ مُحِيطِ سُلْطَتِهَا قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ هَذَا الْجَهْلُ .
يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَ أَنَّ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ
الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ فِي دِينِ الْفِطْرَةِ هُوَ أَنْ نَكُونَ فِي غَايَةِ
الْأَدَبِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ
حَتَّى يَكُونَا مَغْبُوطَيْنِ بِنَا ، وَأَنْ نَكْفِيَهُمَا أَمْرَ مَا
يَحْتَاجَانِ إِلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِحَسَبِ
اسْتِطَاعَتِنَا ، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ سَلْبِ حُرِّيَّتِنَا
وَاسْتِقْلَالِنَا فِي شُئُونِنَا الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَنْزِلِيَّةِ ، وَلَا فِي
أَعْمَالِنَا لِأَنْفُسِنَا وَلِمِلَّتِنَا وَلِدَوْلَتِنَا ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمَا
أَوْ كِلَاهُمَا الِاسْتِبْدَادَ فِي تَصَرُّفِنَا فَلَيْسَ مِنَ الْبِرِّ وَلَا
مِنَ الْإِحْسَانِ شَرْعًا أَنْ نَتْرُكَ مَا نَرَى فِيهِ الْخَيْرَ الْعَامَّ
أَوِ الْخَاصَّ ، أَوْ نَعْمَلَ مَا نَرَى فِيهِ الضُّرَّ الْعَامَّ أَوِ
الْخَاصَّ ، عَمَلًا بِرَأْيِهِمَا وَاتِّبَاعًا لِهَوَاهُمَا ، مَنْ سَافَرَ
لِطَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِتَكْمِيلِ نَفْسِهِ
، أَوْ خِدْمَةِ دِينِهِ أَوْ دَوْلَتِهِ ، أَوْ سَافَرَ لِأَجْلِ عَمَلٍ نَافِعٍ
لَهُ أَوْ لِأُمَّتِهِ ، وَوَالِدَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا غَيْرُ رَاضٍ ; لِأَنَّهُ
لَا يَعْرِفُ قِيمَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَاقًّا وَلَا
مُسِيئًا شَرْعًا وَلَا عَقْلًا ، هَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَهُ الْوَالِدُونَ
وَالْأَوْلَادُ : الْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ لَا يَقْتَضِيَانِ سَلْبَ الْحُرِّيَّةِ
وَالِاسْتِقْلَالِ .
أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ أُمَّهَاتُ سَلَفِنَا الْأَمَاجِدِ
كَأُمَّهَاتِنَا أَكَانُوا فَتَحُوا الْمَمَالِكَ ، وَفَعَلُوا هَاتِيكَ الْعَظَائِمَ
؟ كَلَّا ، بَلْ كَانَتِ الْأَسِيفَةُ الرَّقِيقَةُ الْقَلْبِ مِنْهُنَّ
كَتَمَاضُرَ الْخَنْسَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَدْفَعُ بَنِيهَا الْأَرْبَعَةَ
إِلَى الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ بِعِبَارَاتٍ
تُشَجِّعُ الْجَبَانَ ، بَلْ تُحَرِّكُ الْجَمَادَ ، فَقَدَ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ أَنَّهَا شَهِدَتْ حَرْبَ الْقَادِسِيَّةِ ،
وَمَعَهَا أَرْبَعَةُ بَنِينَ لَهَا فَقَالَتْ لَهُمْ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ :
يَا بُنِيَّ إِنَّكُمْ أَسْلَمْتُمْ طَائِعِينَ ، وَهَاجَرْتُمْ مُخْتَارِينَ ،
وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَبَنُو رَجُلٍ وَاحِدٍ ،
كَمَا أَنَّكُمْ بَنُو امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، مَا خُنْتُ أَبَاكُمْ ، وَلَا
فَضَحْتُ خَالَكُمْ ، وَلَا هَجَّنْتُ حَسَبَكُمْ ، وَلَا غَيَّرْتُ نَسَبَكُمْ ،
وَقَدْ تَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الثَّوَابِ
الْجَزِيلِ فِي حَرْبِ الْكَافِرِينَ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الدَّارَ الْبَاقِيَةَ
خَيْرٌ مِنَ الدَّارِ الْفَانِيَةِ ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ ( 3 : 200 ) ، فَإِذَا أَصْبَحْتُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سَالِمِينَ ،
فَاغْدُوا إِلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ مُسْتَبْصِرِينَ ، وَبِاللَّهِ عَلَى
أَعْدَائِهِ مُسْتَنْصِرِينَ ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْحَرْبَ قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ
سَاقِهَا ، وَاضْطَرَمَتْ لَظًى عَلَى سِبَاقِهَا ، وَجَلَّلَتْ نَارًا عَلَى
أَرْوَاقِهَا ، فَيَمِّمُوا وَطِيسَهَا ، وَجَالِدُوا رَئِيسَهَا عِنْدَ
احْتِدَامِ خَمِيسِهَا ، تَظْفَرُوا بِالْغُنْمِ ، وَالْكَرَامَةِ فِي دَارِ الْخُلْدِ
وَالْمُقَامَةِ ، فَلَمَّا كَانَ الْقِتَالُ فِي الْغَدِ كَانَ يَهْجُمُ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَقُولُ شِعْرًا يَذْكُرُ فِيهِ وَصِيَّةَ الْعَجُوزِ
وَيُقَاتِلُ حَتَّى يُقْتَلَ ، فَلَمَّا بَلَغَهَا خَبَرُ قَتْلِهِمْ كُلِّهِمْ
قَالَتِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَّفَنِي بِقَتْلِهِمْ ، وَأَرْجُو رَبِّي
أَنْ يَجْمَعَنِي بِهِمْ فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ
أَرْوِيَ لَكَ مِثْلَ خَبَرِهَا عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
وَغَيْرِهَا لَفَعَلْتُ ، أَفَتَرَى هَذِهِ الْأُمَّةَ تَعْتَبِرُ الْيَوْمَ
بِسِيرَةِ سَلَفِهَا ، وَهِيَ لَمْ تَعْتَبِرْ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ، وَأَمَامَ
عَيْنَيْهَا ، وَمَا يُتْلَى كُلَّ يَوْمٍ عَلَيْهَا مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ
الَّتِي كَانَتْ دُونَهَا فِي الْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ ، وَالْعِزَّةِ
وَالثَّرْوَةِ ، فَأَصْبَحَتْ مِنْهَا فِي مَوْقِعِ النَّجْمِ ، تُشْرِفُ
عَلَيْهَا مِنْ سَمَاءِ الْعَظَمَةِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، وَمَنْشَأُ ذَلِكَ
كُلِّهِ الِاسْتِقْلَالُ الشَّخْصِيُّ فِي الْإِرَادَةِ وَالْعَقْلِ ; فَإِنَّ الْآبَاءَ
وَالْأُمَّهَاتِ مُتَّفِقُونَ فِيهَا عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِمْ عَلَى
اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ ، وَاسْتِقْلَالِ الْإِدَارَةِ
فِي الْعَمَلِ ، فَقُرَّةُ أَعْيُنِهِمْ أَنْ يَعْمَلَ أَوْلَادُهُمْ بِإِرَادَةِ
أَنْفُسِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ الْخَيْرُ لَهُمْ
وَلِقَوْمِهِمْ .
وَإِنَّمَا قُرَّةُ أَعْيُنِ أَكْثَرِ آبَائِنَا
وَأُمَّهَاتِنَا أَنْ نُدْرِكَ بِعُقُولِهِمْ لَا بِعُقُولِنَا ، وَنُحِبَّ
وَنُبْغِضَ بِقُلُوبِهِمْ لَا بِقُلُوبِنَا ، وَنَعْمَلَ أَعْمَالَنَا
بِإِرَادَتِهِمْ لَا بِإِرَادَتِنَا ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَلَّا يَكُونَ لَنَا
وُجُودٌ مُسْتَقِلٌّ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِنَا ، فَهَلْ تُخْرِجُ هَذِهِ التَّرْبِيَةُ
الِاسْتِبْدَادِيَّةُ الْجَائِرَةُ أُمَّةً عَزِيزَةً عَادِلَةً ، مُسْتَقِلَّةً
فِي أَعْمَالِهَا ، وَفِي سِيَاسَتِهَا وَأَحْكَامِهَا ؟ أَمِ الْبُيُوتُ هِيَ
الَّتِي تُغْرَسُ فِيهَا شَجَرَةُ الِاسْتِبْدَادِ الْخَبِيثَةُ لِلْمُلُوكِ
وَالْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ ، فَيَجْنُونَ ثَمَرَاتِهَا الدَّانِيَةَ نَاعِمِينَ
آمِنِينَ ؟ فَعَلَيْكُمْ يَا عُلَمَاءَ الدِّينِ وَالْأَدَبِ أَنْ تُبَيِّنُوا
لِأُمَّتِكُمْ فِي الْمَدَارِسِ وَالْمَجَالِسِ حُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى
الْأَوْلَادِ ، وَحُقُوقَ الْأَوْلَادِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ ، وَحُقُوقَ
الْأُمَّةِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ ، وَلَا تَنْسَوْا قَاعِدَتَيِ الْحَرِيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ
، فَهُمَا الْأَسَاسُ الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ بِنَاءُ الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّ
عُلَمَاءَ الشُّعُوبِ الشَّمَالِيَّةِ الَّتِي سَادَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ
عَلَيْنَا ، يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ أَخَذُوا هَاتَيْنِ الْمَزِيَّتَيْنِ ـ
اسْتِقْلَالَ الْفِكْرِ وَالْإِرَادَةِ ـ عَنَّا وَأَقَامُوا بِنَاءَ
مَدَنِيَّتِهِمْ عَلَيْهِمَا ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ مِنَّا : "
لَاعِبْ وَلَدَكَ سَبْعًا وَأَدِّبْهِ سَبْعًا ، وَصَاحِبْهُ سَبْعًا ، ثُمَّ
اجْعَلْ حَبْلَهُ عَلَى غَارِبِهِ " وَسَنَعُودُ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . " ( )
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا (151) ﴾
قَالَ إِسْمَاعِيلُ بِن عُمَرٍ بِن كَثِيرٍ القُرَشِيِّ
الدِّمِشْقِيِّ فِي تَفْسِيرِهَا
" قَالَ دَاوُدُ الْأَوْدِيُّ ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ،
قَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ صَحِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمُهُ ، فَلْيَقْرَأْ هَؤُلَاءِ
الْآيَاتِ : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) إِلَى قَوْلِهِ : ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .
وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ : حَدَّثَنَا بَكْرُ
بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيُّ بِمَرْوٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ
الْفَضْلِ ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّهْدِيُّ ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ
، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ قَالَ : سَمِعْتُ
ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : فِي الْأَنْعَامِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ ، ثُمَّ قَرَأَ : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ
عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
) .
ثُمَّ قَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ .
قُلْتُ : وَرَوَاهُ زُهَيْرٌ
وَقَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ قَيْسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، بِهِ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَرَوَى الْحَاكِمُ أَيْضًا فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ
حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَيُّكُمْ
يُبَايِعُنِي عَلَى ثَلَاثٍ؟ " - ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
) حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَاتِ - فَمَنْ
وَفَّى فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَأَدْرَكَهُ
اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقُوبَتَهُ وَمَنْ أُخِّرَ إِلَى الْآخِرَةِ
فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ "
ثُمَّ قَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ
. وَإِنَّمَا اتَّفَقَا عَلَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ ، عَنْ
عُبَادَةَ : " بَايِعُونِي عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا "
الْحَدِيثَ . وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ كِلَا الْحَدِيثَيْنِ ، فَلَا
يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْوَهْمِ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا
، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا فَيَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ
وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ -
لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَعَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ ،
وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ، وَقَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ وَكُلُّ ذَلِكَ
فَعَلُوهُ بِآرَائِهِمْ وَتَسْوِيلِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ ، ( قُلْ ) لَهُمْ (
تَعَالَوْا ) أَيْ : هَلُمُّوا
وَأَقْبِلُوا : ( أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
) أَيْ : أَقُصُّ عَلَيْكُمْ وَأُخْبِرُكُمْ بِمَا حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا لَا تَخَرُّصًا ، وَلَا ظَنًّا ، بَلْ وَحْيًا مِنْهُ
وَأَمْرًا مِنْ عِنْدِهِ : ( أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) وَكَأَنَّ فِي
الْكَلَامِ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ ، وَتَقْدِيرُهُ : وَأَوْصَاكُمْ ( أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا ) ; وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ : ( ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) وَكَمَا
قَالَ الشَّاعِرُ :
حَجَّ وَأَوْصَى بِسُلَيْمَى الْأَعْبُدَا أَنْ لَا تَرَى
وَلَا تُكَلِّمَ أَحَدًا وَلَا يَزَلْ شَرَابُهَا مُبَرَّدَا
وَتَقُولُ الْعَرَبُ : أَمَرْتُكَ أَلَّا تَقُومَ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي
أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ أُمَّتِكَ ، دَخَلَ
الْجَنَّةَ . قُلْتُ : وَإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ : وَإِنْ زَنَا وَإِنْ
سَرَقَ . قُلْتُ : وَإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ : وَإِنْ زَنَا وَإِنْ
سَرَقَ . قُلْتُ : وَإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ : وَإِنْ زَنَا وَإِنْ
سَرَقَ ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ " : وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ
الْقَائِلَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ أَبُو ذَرٍّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ : " وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي
ذَرٍّ " فَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَدِيثِ : وَإِنْ
رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ .
وَفِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي فَإِنِّي
أَغْفِرُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي ، وَلَوْ أَتَيْتَنِي
بِقِرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً أَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً مَا لَمْ
تُشْرِكْ بِي شَيْئًا ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ حَتَّى تَبْلُغَ خَطَايَاكَ عَنَانَ
السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي ، غَفَرْتُ لَكَ
"
وَلِهَذَا شَاهِدٌ فِي الْقُرْآنِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ ) [ النِّسَاءِ : 48 ، 116 ] .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ : " مَنْ
مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا ، دَخَلَ الْجَنَّةَ " وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ
فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا .
وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ وَأَبِي
الدَّرْدَاءِ : " لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَإِنْ قُطِّعْتُمْ
أَوْ صُلِّبْتُمْ أَوْ حُرِّقْتُمْ "
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَوْفٍ الْحِمْصِيُّ ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ
يَزِيدَ حَدَّثَنِي سَيَّارُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
قَوْذَرٍ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ شُرَيْحٍ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ :
أَوْصَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعِ خِصَالٍ :
" أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَإِنْ حُرِّقْتُمْ وَقُطِّعْتُمْ
وَصُلِّبْتُمْ "
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا )
أَيْ : وَأَوْصَاكُمْ وَأَمَرَكُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، أَيْ : أَنْ
تُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) [ الْإِسْرَاءِ : 23 ] .
وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ : " وَوَصَّى رَبُّكَ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
"
وَاللَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ بَيْنَ طَاعَتِهِ
وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ ، كَمَا قَالَ : ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ
إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [ لُقْمَانَ : 14 ، 15 ] . فَأَمَرَ
بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا ، وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ بِحَسْبِهِمَا ، وَقَالَ
تَعَالَى : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ
إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) الْآيَةَ
. [ الْبَقَرَةِ : 83 ] . وَالْآيَاتُ فِي هَذَا
كَثِيرَةٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ،
قَالَ : سَأَلْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ
إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ : " الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا
" قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : " بِرُّ
الْوَالِدَيْنِ " قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : " الْجِهَادُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ " قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ :
حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي
.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ
بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، كُلٌّ
مِنْهُمَا يَقُولُ : أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" أَطِعْ وَالِدَيْكَ ، وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ لَهُمَا مِنَ
الدُّنْيَا ، فَافْعَلْ "
وَلَكِنْ فِي إِسْنَادَيْهِمَا ضَعْفٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ
مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) لَمَّا أَوْصَى تَعَالَى
بِبَرِّ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ ، عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ الْإِحْسَانَ إِلَى
الْأَبْنَاءِ وَالْأَحْفَادِ ، فَقَالَ تَعَالَى : ( وَلَا تَقْتُلُوا
أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ) وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ
أَوْلَادَهُمْ كَمَا سَوَّلَتْ لَهُمُ الشَّيَاطِينُ ذَلِكَ ، فَكَانُوا يَئِدُونَ
الْبَنَاتَ خَشْيَةَ الْعَارِ ، وَرُبَّمَا قَتَلُوا بَعْضَ الذُّكُورِ خِيفَةَ
الِافْتِقَارِ; وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ
الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ : " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ
" قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : " أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ
أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ " قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ : " أَنْ تُزَانِيَ
حَلِيلَةَ جَارِكَ " ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : ( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ) [ الْفُرْقَانِ : 68 ] .
وَقَوْلُهُ : ( مِنْ إِمْلَاقٍ
) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ : هُوَ
الْفَقْرُ ، أَيْ : وَلَا تَقْتُلُوهُمْ مِنْ فَقْرِكُمُ الْحَاصِلِ ، وَقَالَ فِي
سُورَةِ " سُبْحَانَ " : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ
) [ الْإِسْرَاءِ : 31 ] ، أَيْ : خَشْيَةَ حُصُولِ فَقْرٍ ، فِي الْآجِلِ;
وَلِهَذَا قَالَ هُنَاكَ : ( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ) فَبَدَأَ بِرِزْقِهِمْ لِلِاهْتِمَامِ
بِهِمْ ، أَيْ : لَا تَخَافُوا مِنْ فَقْرِكُمْ بِسَبَبِهِمْ ، فَرِزْقُهُمْ عَلَى
اللَّهِ . وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَمَّا كَانَ الْفَقْرُ حَاصِلًا قَالَ
: ( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) ; لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ هَاهُنَا ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) [ الْأَعْرَافِ
: 33 ] . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي قَوْلِهِ : ( وَذَرُوا ظَاهِرَ
الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ) [ الْأَنْعَامِ
: 12 ] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : " لَا
أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ "
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ ، عَنْ وَرَّادٍ ،
عَنْ مَوْلَاهُ الْمُغَيَّرَةِ قَالَ : قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : لَوْ
رَأَيْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ .
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ
سَعْدٍ ! فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي ،
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ "
أَخْرَجَاهُ .
وَقَالَ كَامِلٌ أَبُو الْعَلَاءِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا نَغَارُ . قَالَ : " وَاللَّهِ إِنِّي لَأَغَارُ ،
وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي ، وَمِنْ غَيْرَتِهِ نَهَى عَنِ الْفَوَاحِشِ "
رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ
مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ التِّرْمِذِيِّ ،
فَقَدْ رُوِيَ بِهَذَا السَّنَدِ : " أَعْمَارُ
أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ
"
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) وَهَذَا مِمَّا نَصَّ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ تَأْكِيدًا ، وَإِلَّا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي
النَّهْيِ عَنِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ
: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : الثَّيِّبِ
الزَّانِي ، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ "
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَا
يَحِلُّ دَمُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ . . " وَذَكَرَهُ ، قَالَ الْأَعْمَشُ :
فَحَدَّثْتُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ ، فَحَدَّثَنِي عَنِ الْأَسْوَدِ ، عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، بِمِثْلِهِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ ، عَنْ عَائِشَةَ
، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا; أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا
يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ : زَانٍ مُحْصَنٍ يُرْجَمُ ، وَرَجُلٍ
قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا فَيُقْتَلُ ، وَرَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ
حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ
الْأَرْضِ " وَهَذَا
لَفْظُ النَّسَائِيِّ .
وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ مَحْصُورٌ : سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَا يَحِلُّ دَمُ
امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ
: رَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ ، أَوْ زَنَا بَعْدَ
إِحْصَانِهِ ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ " فَوَاللَّهِ مَا
زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ ، وَلَا تَمَنَّيْتُ أَنَّ لِي
بِدِينِي بَدَلًا مِنْهُ بَعْدَ إِذْ هَدَانِي اللَّهُ ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا ،
فَبِمَ تَقْتُلُونَنِي . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ
، وَابْنُ مَاجَهْ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ وَالزَّجْرُ وَالْوَعِيدُ فِي قَتْلِ
الْمُعَاهَدِ - وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ - كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مِنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ
رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ
عَامًا "
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مِنْ قَتْلَ
مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ ، فَقَدَ أَخَفَرَ بِذِمَّةِ
اللَّهِ ، فَلَا يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا لِيُوجَدُ مِنْ
مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا "
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ
صَحِيحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( ذَلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) أَيْ : هَذَا مَا وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ عَنْهُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ
" .
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ
الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ( 30 ) وَجَعَلَنِي
مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي
بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ( 31 ) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ
يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ( 32 ) ﴾
قَالَ إِسْمَاعِيلُ بِن عُمَرٍ بِن كَثِيرٍ القُرَشِيِّ
الدِّمِشْقِيِّ فِي تَفْسِيرِهَا
" فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ
:
الْأُولَى : قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَشَارَتْ
إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا الْتَزَمَتْ
مَرْيَمُ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - مَا أُمِرَتْ بِهِ مِنْ تَرْكِ الْكَلَامِ ،
وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَطَقَتْ بِ إِنِّي نَذَرْتُ
لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا وَإِنَّمَا وَرَدَ بِأَنَّهَا أَشَارَتْ ، فَيَقْوَى بِهَذَا
قَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّ أَمْرَهَا بِ ( قُولِي ) إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْإِشَارَةُ
. وَيُرْوَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَشَارَتْ إِلَى الطِّفْلِ قَالُوا :
اسْتِخْفَافُهَا بِنَا أَشَدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا ، ثُمَّ قَالُوا لَهَا
عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا
وَكَانَ هُنَا لَيْسَ يُرَادُ بِهَا الْمَاضِي ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَدْ كَانَ
فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي مَعْنَى هُوَ الْآنَ . وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ : كَانَ هُنَا لَغْوٌ ؛ كَمَا قَالَ
:
[ الْفَرَزْدَقُ ] :
وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا مَرَامَا
وَقِيلَ : هِيَ بِمَعْنَى
الْوُجُودِ وَالْحُدُوثِ كَقَوْلِهِ : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ
. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : زَائِدَةٌ وَقَدْ
نَصَبَتْ صَبِيًّا وَلَا أَنْ يُقَالَ ( كَانَ
) بِمَعْنَى حَدَثَ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْحُدُوثِ وَالْوُقُوعِ
لَاسْتَغْنَى فِيهِ عَنِ الْخَبَرِ ، تَقُولُ : كَانَ الْحَرُّ وَتَكْتَفِي بِهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَنْ فِي مَعْنَى الْجَزَاءِ وَكَانَ بِمَعْنَى يَكُنْ ؛
التَّقْدِيرُ : مَنْ يَكُنْ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فَكَيْفَ نُكَلِّمُهُ ؟ !
كَمَا تَقُولُ : كَيْفَ أُعْطِي مَنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ عَطِيَّةً ؛ أَيْ مَنْ
يَكُنْ لَا يَقْبَلُ . وَالْمَاضِي قَدْ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْجَزَاءِ
؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ
ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أَيْ إِنْ يَشَأْ يَجْعَلْ .
وَتَقُولُ : مَنْ كَانَ إِلَيَّ مِنْهُ إِحْسَانٌ كَانَ إِلَيْهِ مِنِّي مِثْلُهُ
، أَيْ مَنْ يَكُنْ مِنْهُ إِلَيَّ إِحْسَانٌ يَكُنْ إِلَيْهِ مِنِّي مِثْلُهُ .
وَالْمَهْدُ قِيلَ : كَانَ
سَرِيرًا كَالْمَهْدِ وَقِيلَ الْمَهْدِ هَاهُنَا حِجْرُ الْأُمِّ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى كَيْفَ نُكَلِّمُ
مَنْ كَانَ سَبِيلُهُ أَنْ يُنَوَّمَ فِي الْمَهْدِ لِصِغَرِهِ ، فَلَمَّا سَمِعَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَلَامَهُمْ قَالَ لَهُمْ مِنْ مَرْقَدِهِ :
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَهِيَ :
الثَّانِيَةُ : فَقِيلَ : كَانَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- يَرْضَعُ فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُمْ تَرَكَ الرَّضَاعَةَ وَأَقْبَلَ
عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ ، وَاتَّكَأَ عَلَى يَسَارِهِ ، وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ
بِسَبَّابَتِهِ الْيُمْنَى ، وَ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فَكَانَ أَوَّلَ مَا
نَطَقَ بِهِ الِاعْتِرَافُ بِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ ،
رَدًّا عَلَى مَنْ غَلَا مِنْ بَعْدِهِ فِي شَأْنِهِ . وَالْكِتَابُ الْإِنْجِيلُ
؛ قِيلَ : آتَاهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْكِتَابَ ، وَفَهَّمَهُ وَعَلَّمَهُ ،
وَآتَاهُ النُّبُوَّةَ كَمَا عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ، وَكَانَ
يَصُومُ وَيُصَلِّي . وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ
بَعْدَ هَذَا . وَقِيلَ : أَيْ حَكَمَ لِي بِإِيتَاءِ الْكِتَابِ وَالنُّبُوَّةِ
فِي الْأَزَلِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْكِتَابُ مُنَزَّلًا فِي الْحَالِ ؛ وَهَذَا
أَصَحُّ . وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْ ذَا بَرَكَاتٍ وَمَنَافِعَ فِي الدِّينِ
وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ وَمُعَلِّمًا لَهُ . التُّسْتَرِيُّ : وَجَعَلَنِي آمُرُ
بِالْمَعْرُوفِ ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأُرْشِدُ الضَّالَّ ، وَأَنْصُرُ
الْمَظْلُومَ ، وَأُغِيثُ الْمَلْهُوفَ .
وَأَوْصَانِي
بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَيْ لِأُؤَدِّيَهُمَا إِذَا أَدْرَكَنِي التَّكْلِيفُ
، وَأَمْكَنَنِي أَدَاؤُهُمَا ، عَلَى الْقَوْلِالْأَخِيرِ الصَّحِيحِ . مَا دُمْتُ
حَيًّا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ دَوَامَ حَيَاتِي . وَبَرًّا بِوَالِدَتِي قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ : لَمَّا قَالَ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَقُلْ بِوَالِدَيَّ عُلِمَ
أَنَّهُ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى
.
وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا أَيْ مُتَعَظِّمًا
مُتَكَبِّرًا يَقْتُلُ وَيَضْرِبُ عَلَى الْغَضَبِ . وَقِيلَ
: الْجَبَّارُ الَّذِي لَا يَرَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقًّا
قَطُّ . شَقِيًّا أَيْ خَائِبًا مِنَ الْخَيْرِ . ابْنُ عَبَّاسٍ : عَاقًّا .
وَقِيلَ : عَاصِيًا
لِرَبِّهِ . وَقِيلَ : لَمْ يَجْعَلْنِي تَارِكًا لِأَمْرِهِ فَأَشْقَى كَمَا
شَقِيَ إِبْلِيسُ لَمَّا تَرَكَ أَمْرَهُ
.
الثَّالِثَةُ : قَالَ مَالِكُ بْنُ
أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ : مَا أَشَدَّهَا عَلَى
أَهْلِ الْقَدَرِ ! أَخْبَرَ عِيسَى - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - بِمَا قُضِيَ مِنْ أَمْرِهِ ، وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ
يَمُوتَ . وَقَدْ رُوِيَ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ
أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ عِيسَى أَذْعَنُوا وَقَالُوا : إِنَّ هَذَا
لَأَمْرٌ عَظِيمٌ . وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِنَّمَا تَكَلَّمَ فِي طُفُولَتِهِ
بِهَذِهِ الْآيَةِ ، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَالَةِ الْأَطْفَالِ ، حَتَّى مَشَى عَلَى
عَادَةِ الْبَشَرِ إِلَى أَنْ بَلَغَ مَبْلَغَ الصِّبْيَانِ فَكَانَ نُطْقُهُ
إِظْهَارَ بَرَاءَةِ أُمِّهِ لَا أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يَعْقِلُ فِي تِلْكَ
الْحَالَةِ ، وَهُوَ كَمَا يُنْطِقُ اللَّهُ تَعَالَى الْجَوَارِحَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ . وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ دَامَ نُطْقُهُ ، وَلَا أَنَّهُ كَانَ
يُصَلِّي وَهُوَ ابْنُ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ ، وَلَوْ كَانَ يَدُومُ نُطْقُهُ
وَتَسْبِيحُهُ وَوَعْظُهُ وَصَلَاتُهُ فِي صِغَرِهِ مِنْ وَقْتِ الْوِلَادَةِ
لَكَانَ مِثْلُهُ مِمَّا لَا يَنْكَتِمُ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى
فَسَادِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَيُصَرِّحُ بِجَهَالَةِ قَائِلِهِ .
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ
خِلَافًا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَالدَّلِيلُ
عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْفِرَقِ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُحَدَّ . وَإِنَّمَا صَحَّ
بَرَاءَتُهَا مِنَ الزِّنَا بِكَلَامِهِ فِي الْمَهْدِ . وَدَلَّتْ هَذِهِ
الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَبِرَّ الْوَالِدَيْنِ كَانَ
وَاجِبًا عَلَى الْأُمَمِ السَّالِفَةِ ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ الْمَاضِيَةِ
، فَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَلَمْ يُنْسَخْ فِي شَرِيعَةِ أَمْرِهِ .
وَكَانَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي غَايَةِ التَّوَاضُعِ ؛ يَأْكُلُ الشَّجَرَ
، وَيَلْبَسُ الشَّعْرَ ، وَيَجْلِسُ عَلَى التُّرَابِ ، وَيَأْوِي حَيْثُ جَنَّهُ
اللَّيْلُ ، لَا مَسْكَنَ لَهُ ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
الرَّابِعَةُ : الْإِشَارَةُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ ،
وَتُفْهِمُ مَا يُفْهِمُ الْقَوْلُ . كَيْفَ لَا وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْ مَرْيَمَ فَقَالَ : فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ وَفَهِمَ مِنْهَا الْقَوْمُ
مَقْصُودَهَا وَغَرَضَهَا فَقَالُوا : كَيْفَ
نُكَلِّمُ وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي ( آلِ عِمْرَانَ ) مُسْتَوْفًى .
الْخَامِسَةُ : قَالَ الْكُوفِيُّونَ : لَا يَصِحُّ قَذْفُ الْأَخْرَسِ
وَلَا لِعَانُهُ . وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ ، وَبِهِ قَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْقَذْفُ
عِنْدَهُمْ بِصَرِيحِ الزِّنَا دُونَ مَعْنَاهُ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنَ
الْأَخْرَسِ ضَرُورَةً ، فَلَمْ يَكُنْ قَاذِفًا ؛ بِالْإِشَارَةِ بِالزِّنَا مِنَ
الْوَطْءِ الْحَلَالِ وَالشُّبْهَةِ . قَالُوا
: وَاللِّعَانُ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ ، وَشَهَادَةُ الْأَخْرَسِ لَا تُقْبَلُ
بِالْإِجْمَاعِ . قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ : قَوْلُهُمْ إِنَّ الْقَذْفَ لَا
يَصِحُّ إِلَّا بِالتَّصْرِيحِ ، فَهُوَ بَاطِلٌ بِسَائِرِ الْأَلْسِنَةِ مَا
عَدَا الْعَرَبِيَّةَ ، فَكَذَلِكَ إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ
الْإِجْمَاعِ فِي شَهَادَةِ الْأَخْرَسِ فَغَلَطٌ . وَقَدْ نَصَّ مَالِكٌ أَنَّ شَهَادَتَهُ
مَقْبُولَةٌ إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ ، وَأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ
بِالشَّهَادَةِ ، وَأَمَّا مَعَ الْقُدْرَةِ بِاللَّفْظِ فَلَا تَقَعُ مِنْهُ
إِلَّا بِاللَّفْظِ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ
: وَالْمُخَالِفُونَ يُلْزِمُونَ الْأَخْرَسَ الطَّلَاقَ
وَالْبُيُوعَ وَسَائِرَ الْأَحْكَامِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ مِثْلَ
ذَلِكَ . قَالَ الْمُهَلَّبُ : وَقَدْ تَكُونُ الْإِشَارَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ
أَبْوَابِ الْفِقْهِ أَقْوَى مِنَ الْكَلَامِ مِثْلَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - :
بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ نَعْرِفُ قُرْبَ مَا بَيْنَهُمَا
بِمِقْدَارِ زِيَادَةِ الْوُسْطَى عَلَى السَّبَّابَةِ . وَفِي إِجْمَاعِ
الْعُقُولِ عَلَى أَنَّ الْعِيَانَ أَقْوَى مِنَ الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْإِشَارَةَ قَدْ تَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَقْوَى مِنَ الْكَلَامِ .
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ أَيِ السَّلَامَةُ عَلَيَّ مِنَ
اللَّهِ تَعَالَى . قَالَ الزَّجَّاجُ : ذُكِرَ السَّلَامُ قَبْلَ هَذَا بِغَيْرِ
أَلِفٍ وَلَامٍ فَحَسُنَ فِي الثَّانِيَةِ ذِكْرُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ . يَوْمَ
وُلِدْتُ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا . وَقِيلَ : مِنْ هَمْزِ الشَّيْطَانِ كَمَا تَقَدَّمَ
فِي ( آلِ عِمْرَانَ ) . وَيَوْمَ أَمُوتُ يَعْنِي فِي الْقَبْرِ وَيَوْمَ
أُبْعَثُ حَيًّا يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَحْوَالًا ثَلَاثَةً :
فِي الدُّنْيَا حَيًّا ، وَفِي الْقَبْرِ مَيِّتًا ، وَفِي الْآخِرَةِ مَبْعُوثًا
؛ فَسَلِمَ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّهَا وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ . ثُمَّ
انْقَطَعَ كَلَامُهُ فِي الْمَهْدِ حَتَّى بَلَغَ مَبْلَغَ الْغِلْمَانِ . وَقَالَ
قَتَادَةُ : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَأَتْهُ
امْرَأَةٌ يُحْيِي الْمَوْتَى ، وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ فِي سَائِرِ
آيَاتِهِ فَقَالَتْ : طُوبَى
لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ ، وَالثَّدْيِ الَّذِي أَرْضَعَكَ ؛ فَقَالَ لَهَا
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : طُوبَى لِمَنْ تَلَا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى
وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ وَعَمِلَ بِهِ . " ( ).
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ
جَبَّارًا عَصِيًّا ( 14 ) ﴾
قَوْلُ الحُسَين بِن مَسْعُودٍ البَغَوِيِّ فِي تَفسِيرِهَا
وَقَوْلُهُ : ( وَبَرًّا
بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ) لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى
طَاعَتَهُ لِرَبِّهِ ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ ذَا رَحْمَةٍ وَزَكَاةٍ وَتُقًى ،
عَطَفَ بِذِكْرِ طَاعَتِهِ لِوَالِدَيْهِ وَبِرِّهِ بِهِمَا ، وَمُجَانَبَتِهِ
عُقُوقَهُمَا ، قَوْلًا وَفِعْلًا وَأَمْرًا وَنَهْيًا; وَلِهَذَا قَالَ : (
وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ) ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ
الْجَمِيلَةِ جَزَاءً لَهُ عَلَى ذَلِكَ
: ( وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ
يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) أَيْ : لَهُ الْأَمَانُ فِي هَذِهِ
الثَّلَاثَةِ الْأَحْوَالِ .
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ : أَوْحَشُ مَا يَكُونُ
الْخَلْقُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ : يَوْمَ يُولَدُ ، فَيَرَى نَفْسَهُ خَارِجًا
مِمَّا كَانَ فِيهِ ، وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ عَايَنَهُمْ ،
وَيَوْمَ يُبْعَثُ ، فَيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ عَظِيمٍ . قَالَ : فَأَكْرَمَ اللَّهُ فِيهَا يَحْيَى بْنَ
زَكَرِيَّا فَخَصَّهُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ ، ( وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ
وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ مَنْصُورٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ الْفَضْلِ عَنْهُ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ
قَتَادَةَ ، فِي قَوْلِهِ : ( جَبَّارًا
عَصِيًّا ) ، قَالَ : كَانَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ يَذْكُرُ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : " مَا مِنْ أَحَدٍ يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا
ذَا ذَنْبٍ ، إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا " . قَالَ قَتَادَةُ : مَا
أَذْنَبَ وَلَا هَمَّ بِامْرَأَةٍ . مُرْسَلٌ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْعَاصِ أَنَّهُ
سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " كُلُّ
بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ
يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا " ابْنُ إِسْحَاقَ هَذَا مُدَلِّسٌ ، وَقَدْ
عَنْعَنَ هَذَا الْحَدِيثَ ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: " مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ ، أَوْ هَمَّ
بِخَطِيئَةٍ ، لَيْسَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ، وَمَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ
يَقُولَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى
"
وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ زَيْدِ
بْنِ جُدْعَانَ لَهُ مُنْكَرَاتٌ كَثِيرَةٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ :
أَنَّ حَسَنًا قَالَ : إِنَّ
يَحْيَى وَعِيسَى ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، الْتَقَيَا ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى :
اسْتَغْفِرْ لِي ، أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي ، فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ : اسْتَغْفِرْ
لِي فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي . فَقَالَ لَهُ عِيسَى
: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي ، سَلَّمْتُ عَلَى نَفْسِي ،
وَسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ ، فَعُرِفَ وَاللَّهِ فَضْلُهُمَا . " ( ).
الوَصِيَّةُ بِالوَالِدَينِ فِي السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ
المُطَهَرَةِ
(1)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ
رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: "
أُمُّكَ " قَالَ:
ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " ثُمَّ أُمُّكَ " قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " ثُمَّ أُمُّكَ " قَالَ:
ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " ثُمَّ أَبُوكَ
" ( )
قَوْلُ مُحَمَّدٍ بِن عَلِيٍّ بِن سُلْطَان القَارِيِّ فِي
شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" فِي النِّهَايَةِ : الْبِرُّ بِالْكَسْرِ
الْإِحْسَانُ ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ضِدُّ الْعُقُوقِ
، وَهُوَ الْإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ ، وَالتَّضْيِيعُ لِحَقِّهِمْ ، يُقَالُ : بَرَّ
يَبِرُّ فَهُوَ بَارٌّ وَجَمْعُهُ بَرَرَةٌ ، وَجَمْعُ الْبَرِّ أَبْرَارٌ ،
وَصِلَةُ الرَّحِمِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقْرَبِينَ مِنْ ذَوِي النَّسَبِ
وَالْأَصْهَارِ ، وَالتَّعَطُّفِ عَلَيْهِمْ ، وَالرِّفْقِ بِهِمْ ،
وَالرِّعَايَةِ لِأَحْوَالِهِمْ ، وَقَطْعُ الرَّحِمِ ضِدُّ ذَلِكَ ، يُقَالُ :
وَصَلَ رَحِمَهُ يَصِلُهَا وَصْلًا وَصِلَةً ، وَالْهَاءُ فِيهَا عِوَضٌ عَنِ
الْوَاوِ الْمَحْذُوفَةِ ، فَكَأَنَّهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ قَدْ وَصَلَ مَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ عَلَاقَةِ الْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِ .
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
4911 - ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ أَحَقُّ ) أَيْ : أَوْلَى وَأَلْيَقُ
( بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيُكْسَرُ
أَيْ : بِإِحْسَانِ
مُصَاحَبَتِي فِي مُعَاشَرَتِي . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ
: صَحِبَهُ يَصْحَبُهُ صُحْبَةً بِالضَّمِّ وَصَحَابَةً
بِالْفَتْحِ ، وَفِي الْقَامُوسِ : صَحِبَهُ كَسَمِعَهُ صَحَابَةً وَيُكْسَرُ
وَصَحِبَهُ عَاشَرَهُ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ : هُوَ بِفَتْحِ الصَّادِ هُنَا بِمَعْنَى
: الصُّحْبَةِ ( قَالَ : أُمُّكَ ) : بِالرَّفْعِ كَذَا فِي الْأُصُولِ
الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ هُنَا وَفِيمَا بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ
الرِّوَايَةِ الْأَوْلَى ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ خَطَأٌ كَمَا سَنَذْكُرُ
وَجْهَهُ ( قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : " أُمُّكَ " قَالَ : ثُمَّ
مَنْ ؟ قَالَ : " أُمُّكَ " قَالَ
: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : " أَبُوكَ " وَفِي
رِوَايَةٍ : قَالَ ) : قَالَ مِيرَكُ : هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ أَفْرَادِ
مُسْلِمٍ فَتَأَمَّلْ فِي قَوْلِهِ : مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . قُلْتُ : أَرَادَ
الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ مَعْنًى . ( أُمَّكَ ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ ،
أَيِ : الْزَمْ أُمَّكَ ، أَيْ : أَحْسِنْ صُحْبَتَهَا أَوْ رِعَايَةَ
مُعَاشَرَتِهَا ، أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ ، أَيْ : أَحْسِنْ إِلَيْهَا ،
أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ ، وَالتَّقْدِيرُ : بِرَّ أُمَّكَ وَهُوَ
الْأَظْهَرُ . ( ثُمَّ
أُمَّكَ ، ثُمَّ أُمَّكَ ، ثُمَّ أَبَاكَ ، ثُمَّ أَدْنَاكَ ) أَيْ : أَقْرَبُكَ ( أَدْنَاكَ ) : بِحَذْفِ
الْعَاطِفِ أَوْ أُعِيدَ لِلتَّأْكِيدِ . قَالَ الطِّيبِيُّ : قَوْلُهُ : "
أُمُّكَ " إِلَخْ ، جَاءَ مَرْفُوعًا فِي رِوَايَةٍ ، وَفِي أُخْرَى
مَنْصُوبًا ، أَمَّا الرَّفْعُ فَظَاهِرٌ وَالنَّصْبُ عَلَى مَعْنَى أَحَقُّ مَنْ
أَبَرَّ . وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ رِوَايَةُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ مَنْ أَبَرَّ . اهـ
. وَهُوَ مُوهِمٌ أَنَّ أُمَّكَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ جَاءَ
مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلِ الرَّفْعُ مُتَعَيِّنٌ فِي الْأَوَّلِ
لِقَوْلِهِ : أَبُوكَ هُنَاكَ ، وَالنَّصْبُ مُتَعَيِّنٌ هُنَا لِقَوْلِهِ أَبَاكَ
، فَإِيَّاكَ وَإِيَّاكَ أَنْ تَخْلِطَ الرِّوَايَةَ فَتُحْرَمَ الدِّرَايَةَ .
وَفَى شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ : فِيهِ الْحَثُّ عَلَى بِرِّ الْأَقَارِبِ
وَأَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّهُمْ بِذَلِكَ ، ثُمَّ بَعْدَهَا الْأَبُ ، ثُمَّ
الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ . قَالُوا : وَسَبَبُ
تَقَدُّمِ الْأُمِّ تَعَبُهَا عَلَيْهِ وَشَفَقَتُهَا وَخِدْمَتُهَا ، قُلْتُ :
وَفِي التَّنْزِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ
ثَلَاثُونَ شَهْرًا ، فَالتَّثْلِيثُ فِي مُقَابَلَةِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ
مُخْتَصَّةٍ بِالْأُمِّ ، وَهَى تَعَبُ الْحَمْلِ وَمَشَقَّةُ الْوَضْعِ
وَمِحْنَةُ الرَّضَاعِ " ( مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
) " .
(2)
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ , أنَّ جاهمة جَاءَ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَرَدْتُ الْغَزْوَ، وَجِئْتُكَ أَسْتَشِيرُكَ , فَقَالَ: " هَلْ
لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ " قَالَ: نَعَمْ , فَقَالَ:
" الْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلِهَا
" ثُمَّ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ فِي
مَقَاعِدَ شَتَّى كَمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ
( ).
و الحديث ورد بسنن النسائي وابن ماجه، وهو حسن صحيح كما قال
الألباني في صحيح الترغيب.
(3)
عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: " الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ، قَالَ: ثُمَّ
بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ، قَالَ:
الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي " ( ).
قَوْلُ مُحَمَّدٍ بِن عَلِيٍ بِن حَجَرٍ العَسْقَلَانِيِّ
فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" قَوْلُهُ : ( كِتَابُ الْجِهَادِ ) كَذَا
لِابْنِ شَبُّوَيْهِ ، وَكَذَا لِلنَّسَفِيِّ لَكِنْ قَدَّمَ الْبَسْمَلَةَ ،
وَسَقَطَ " كِتَابُ " لِلْبَاقِينَ
وَاقْتَصَرُوا عَلَى " بَابُ فَضْلِ الْجِهَادِ " لَكِنْ عِنْدَ
الْقَابِسِيِّ " كِتَابُ فَضْلِ الْجِهَادِ " وَلَمْ يَذْكُرْ بَابُ ،
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ " كِتَابُ الْجِهَادِ " بَابُ دُعَاءِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَسَيَأْتِي .
وَالْجِهَادُبِكَسْرِ الْجِيمِ أَصْلُهُ لُغَةً الْمَشَقَّةُ ، يُقَالُ : جَهِدْتُ
جِهَادًا بَلَغْتُ الْمَشَقَّةَ . وَشَرْعًا بَذْلُ الْجُهْدِ فِي قِتَالِ
الْكُفَّارِ ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ
وَالْفُسَّاقِ . فَأَمَّا مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ فَعَلَى تَعَلُّمِ أُمُورِ
الدِّينِ ثُمَّ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا ثُمَّ عَلَى تَعْلِيمِهَا ، وَأَمَّا
مُجَاهَدَةُ الشَّيْطَانِ فَعَلَى دَفْعِ مَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ
وَمَا يُزَيِّنُهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ ، وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ فَتَقَعُ
بِالْيَدِ وَالْمَالِ وَاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ ، وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ
الْفُسَّاقِ فَبِالْيَدِ ثُمَّ اللِّسَانِ ثُمَّ الْقَلْبِ ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ
مِنْ حَدِيثِ سَبْرَةَ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ - ابْنُ الْفَاكِهِ - بِالْفَاءِ وَكَسْرِ
الْكَافِ بَعْدَهَا هَاءٌ - فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ قَالَ : "
فَيَقُولُ - أَيِ الشَّيْطَانُ - يُخَاطِبُ
الْإِنْسَانَ : تُجَاهِدُ فَهُوَ جُهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ " وَاخْتُلِفَ فِي جِهَادِ
الْكُفَّارِ هَلْ كَانَ أَوَّلًا فَرْضَ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ ؟ وَسَيَأْتِي
الْبَحْثُ فِيهِ فِي " بَابِ وُجُوبِ النَّفِيرِ
" .
قَوْلُهُ : ( بَابُ فَضْلِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ
التَّحْتَانِيَّةِ جَمْعُ سِيرَةٍ ، وَأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى أَبْوَابِ الْجِهَادِ
لِأَنَّهَا مُتَلَقَّاةٌ مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَزَوَاتِهِ .
قَوْلُهُ : ( وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
الْآيَتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ : وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ كَذَا لِلنَّسَفِيِّ
وَابْنِ شَبُّوَيْهِ ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ
الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا ، وَعِنْدَ أَبِي ذَرٍّ إِلَى قَوْلِهِ : وَعْدًا عَلَيْهِ
حَقًّا ثُمَّ قَالَ : إِلَى قَوْلِهِ : وَالْحَافِظُونَ
لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُرَادُ بِالْمُبَايَعَةِ فِي
الْآيَةِ مَا وَقَعَ فِي لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ مِنَ الْأَنْصَارِ أَوْ أَعَمُّ
مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ عِنْدَ
أَحْمَدَ عَنْ جَابِرٍ ، وَعِنْدَ الْحَاكِمِ فِي " الْإِكْلِيلِ " عَنْ
كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، وَفِي مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ " قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ ، قَالَ : أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ
وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا
تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ . قَالُوا : فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ
قَالَ : الْجَنَّةُ
. قَالُوا : رَبِحَ الْبَيْعُ ، لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ فَنَزَلَ إِنَّ
اللَّهَ اشْتَرَى الْآيَةَ " .
قَوْلُهُ : ( قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحُدُودُ الطَّاعَةُ )
وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ
فِي قَوْلِهِ : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يَعْنِي طَاعَةَ اللَّهِ ، وَكَأَنَّهُ
تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ ، لِأَنَّ مَنْ أَطَاعَ وَقَفَ عِنْدَ امْتِثَالِ أَمْرِهِ
وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ
أَحَادِيثَ :
الْأَوَّلُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ " أَيُّ الْعَمَلِ
أَفْضَلُ " وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَوَاقِيتِ ،
وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ : إِنْ أَوْقَعَ
الصَّلَاةَ فِي مِيقَاتِهَا كَانَ الْجِهَادُ مُقَدَّمًا عَلَى بِرِّ
الْوَالِدَيْنِ ، وَإِنْ أَخَّرَهَا كَانَ الْبِرُّ مُقَدَّمًا عَلَى الْجِهَادِ .
وَلَا أَعْرِفُ لَهُ فِي ذَلِكَ مُسْتَنَدًا ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَقْدِيمَ
الصَّلَاةِ عَلَى الْجِهَادِ وَالْبِرِّ لِكَوْنِهَا لَازِمَةً لِلْمُكَلَّفِ فِي
كُلِّ أَحْيَانِهِ ، وَتَقْدِيمُ الْبِرِّ عَلَى الْجِهَادِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى
إِذْنِ الْأَبَوَيْنِ . وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : إِنَّمَا خَصَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عُنْوَانٌ عَلَى
مَا سِوَاهَا مِنَ الطَّاعَاتِ ، فَإِنَّ مَنْ ضَيَّعَ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ
حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مَعَ خِفَّةِ مُؤْنَتِهَا عَلَيْهِ وَعَظِيمِ
فَضْلِهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ ، وَمَنْ لَمْ يَبَرَّ وَالِدَيْهِ مَعَ
وُفُورِ حَقِّهِمَا عَلَيْهِ كَانَ لِغَيْرِهِمَا أَقَلَّ بِرًّا ، وَمَنْ تَرَكَ
جِهَادَ الْكُفَّارِ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لِلدِّينِ كَانَ لِجِهَادِ
غَيْرِهِمْ مِنَ الْفُسَّاقِ أَتْرَكَ ، فَظَهَرَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ تَجْتَمِعُ
فِي أَنَّ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا أَحْفَظَ ، وَمَنْ
ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعَ
" .
(4)
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ، فَقَالَ:
إِنّ لِيَ امْرَأَةً، وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا، قَالَ أَبُو
الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: " الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ
ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ "( )
قَوْلُ مُحَمَّدٍ بِن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِن عَبْدِ
الرَّحِيمِ المُبَارَكْفُورِيِّ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" قَوْلُهُ : ( الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ
الْجَنَّةِ ) قَالَ الْقَاضِي : أَيْ خَيْرُ
الْأَبْوَابِ وَأَعْلَاهَا ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحْسَنَ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ
إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ وَيُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى وُصُولِ دَرَجَتِهَا الْعَالِيَةِ
مُطَاوَعَةُ الْوَالِدِ وَمُرَاعَاةُ جَانِبِهِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : إِنَّ
لِلْجَنَّةِ أَبْوَابًا ، وَأَحْسَنُهَا دُخُولًا أَوْسَطُهَا ، وَإِنَّ سَبَبَ
دُخُولِ ذَلِكَ الْبَابِ الْأَوْسَطِ هُوَ مُحَافَظَةُ حُقُوقِ الْوَالِدِ
انْتَهَى ، فَالْمُرَادُ بِالْوَالِدِ الْجِنْسُ ، أَوْ إِذَا كَانَ حُكْمُ
الْوَالِدِ هَذَا فَحُكْمُ الْوَالِدَةِ أَقْوَى وَبِالِاعْتِبَارِ أَوْلَى ( فَأَضِعْ ) فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ
الْإِضَاعَةِ ( ذَلِكَ الْبَابَ ) بِتَرْكِ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ ( أَوِ
احْفَظْهُ ) أَيْ دَاوِمْ عَلَى تَحْصِيلِهِ
.
قَوْلُهُ : ( هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ) وَأَخْرَجَهُ ابْنُ
مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ
وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ " .
(5)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ
أَنْفُ، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: " مَنْ أَدْرَكَ
أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ
الْجَنَّةَ "( ).
قَوْلُ عَلِيٍّ بِن سُلْطَانِ بِن مُحَمَّدٍ القَارِّي فِي
شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" ( وَعَنْهُ ) أَيْ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ( قَالَ
: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رَغِمَ ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ :
لَصِقَ بِالرُّغَامِ وَهُوَ التُّرَابُ الْمُخْتَلِطَةُ بِالرَّمْلِ ( أَنْفُهُ )
: وَالْمُرَادُ بِهِ الذُّلُّ ، وَهُوَ إِخْبَارٌ أَوْ دُعَاءُ ، وَالضَّمِيرُ
مُبْهَمٌ سَنُبَيِّنُهُ ، وَالْقَصْدُ مِنَ الْإِبْهَامِ ، ثُمَّ التَّبْيِينُ كَوْنُهُ
أَوْقَعَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ ، وَكَذَا تَأْكِيدُهُ بِإِعَادَتِهِ مَرَّتَيْنِ
. ( رَغِمَ أَنْفُهُ ، رَغِمَ أَنْفُهُ قِيلَ
: مَنْ ) أَيْ : مَنْ هُوَ أَوْ هُوَ مَنْ أَوْ تَعْنِي مَنْ
أَوْ أَنْفُ مَنْ ( يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ ) :
فِيهِ تَغْلِيبٌ ( عِنْدَ الْكِبَرِ ) : خُصَّ بِهِ ; لِأَنَّهُ أَحْوَجُ الْأَوْقَاتِ
إِلَى حُقُوقِهِمَا . قَالَ الْمُظْهِرُ : هُوَ ظَرْفٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ،
وَالظَّرْفُ إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ يَرْفَعُ مَا بَعْدَهُ ،
فَقَوْلُهُ : ( أَحَدُهُمَا ) : مَرْفُوعٌ بِالظَّرْفِ وَقَوْلُهُ :
( أَوْ كِلَاهُمَا ) : مَعْطُوفٌ عَلَى أَحَدِهِمَا . اهـ .
فَهُمَا فَاعِلَانِ فِي الْمَعْنَى ، وَقَالَ الْأَشْرَفُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
أَحَدُهُمَا خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ، أَيْ : مُدْرِكُهُ أَحَدُهُمَا أَوْ
كِلَاهُمَا ، فَإِنَّ مَنْ أَدْرَكَ شَيْئًا فَقَدْ أَدْرَكَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ ،
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ : مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ . وَفِي شَرْحِ
الْمَصَابِيحِ قَوْلُهُ : مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ الْكِبَرُ أَحَدَهُمَا أَوْ
كِلَاهُمَا . الْكِبَرُ : فَاعِلُ أَدْرَكَ ، وَأَحَدُهُمَا مَفْعُولُهُ . قُلْتُ
: الظَّاهِرُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَفْعُولِهِ وَهُوَ وَالِدَيْهِ .
قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ : عِنْدَ الْكِبَرِ
بِالْإِضَافَةِ ، وَأَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا مَرْفُوعَانِ ، هَكَذَا هُوَ فِي
جَمِيعِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ ، وَفِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ ، وَجَامِعِ
الْأُصُولِ ، وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ ، وَغَيْرُهُ فِي بَعْضِهَا إِلَى
قَوْلِهِ عِنْدَهُ بِالْهَاءِ وَالْكِبَرُ بِالرَّفْعِ ، وَأَحَدَهُمَا أَوْ
كِلَيْهِمَا بِالنَّصْبِ ، نَعَمْ هُوَ فِي التِّرْمِذِيِّ ، كَذَا عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رَغِمَ
أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ
الْجَنَّةَ " . اهـ . ثُمَّ عَطَفَ عَلَى ( أَدْرَكَ ) أَيْ : ( ثُمَّ ) :
بَعْدَ إِدْرَاكِهِ مَا ذُكِرَ وَإِمْهَالِهِ مُدَّةً يَسَعُ فِيهَا قَضَاءَ
حُقُوقِهِمَا وَأَدَاءَ بَرِّهِمَا ( لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ ) : بِصِيغَةِ
الْمَعْلُومِ مِنَ الدُّخُولِ أَيْ : لَمْ يَدْخُلْهَا بِسَبَبِ عُقُوقِهِمَا
وَالتَّقْصِيرِ فِي حُقُوقِهِمَا . وَقَالَ النَّوَوِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّ
بِرَّهُمَا عِنْدَ كِبَرِهِمَا وَضَعْفِهِمَا بِالْخِدْمَةِ وَالنَّفَقَةِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ ، فَمَنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ فَاتَهُ
دُخُولُ الْجَنَّةِ . وَقَالَ الطِّيبِيُّ ، ( ثُمَّ ) فِي قَوْلِهِ : ثُمَّ
لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ اسْتِبْعَادِيَّةٌ يَعْنِي : ذَلَّ وَخَابَ وَخَسِرَ
مَنْ أَدْرَكَ تِلْكَ الْفُرْصَةَ الَّتِي هِيَ مُوجِبَةٌ لِلْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ
بِالْجَنَّةِ ، ثُمَّ لَمْ يَنْتَهِزْهَا ، وَانْتِهَازُهَا هُوَ مَا اشْتَمَلَ
عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا
إِلَى قَوْلِهِ : وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ،
فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى الِاجْتِنَابِ عَنْ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ ،
وَالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ كَرَائِمِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مِنَ
التَّوَاضُعِ وَالْخِدْمَةِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا ، ثُمَّ الدُّعَاءُ
لَهُمَا فِي الْعَاقِبَةِ . ( رَوَاهُ
مُسْلِمٌ ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : " رَغِمَ أَنْفُهُ ، ثُمَّ رَغِمَ
أَنْفُهُ ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ، مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَهُ الْكِبَرُ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ " . رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالْحَاكِمُ عَنْهُ بِلَفْظِ : " رَغِمَ
أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ
دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ، ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ،
وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ
الْجَنَّةَ " .
(6)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمِدَّ اللَّهُ فِي
عُمْرِهِ، وَيَزِيدَ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " ( ).
(7)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: " أَحَيٌّ وَالِدَاكَ
"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "
فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ " ( )
قَالَ أَحْمَدٌ بِن عَلِيٍّ بِن حَجَرٍ العَسْقَلَانِيِّ
فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" قَوْلُهُ : ( بَابُ الْجِهَادِ بِإِذْنِ
الْأَبَوَيْنِ ) كَذَا أَطْلَقَ ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَقَيَّدَهُ
بِالْإِسْلَامِ الْجُمْهُورُ ، وَلَمْ يَقَعْ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُمَا
مَنَعَاهُ ، لَكِنْ لَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي .
قَوْلُهُ : ( سَمِعْتُ
أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ وَكَانَ لَا يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ ) تَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ فِي " بَابِ صَوْمِ دَاوُدَ
" مِنْ كِتَابِ الصِّيَامِ ، وَقَدْ خَالَفَ
الْأَعْمَشُ شُعْبَةَ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ
عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
بَابَاهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، فَلَعَلَّ لِحَبِيبٍ فِيهِ
إِسْنَادَيْنِ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ بَكْرَ بْنَ بَكَّارٍ رَوَاهُ عَنْ شُعْبَةَ
عَنْ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهْ كَذَلِكَ
.
قَوْلُهُ : ( جَاءَ
رَجُلٌ ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ جَاهِمَةُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ
، فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ
" أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ الْغَزْوَ وَجِئْتُ لِأَسْتَشِيرَكَ ،
فَقَالَ هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ الْزَمْهَا "
الْحَدِيثَ ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ
السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَتَيْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ
" فَذَكَرَهُ . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ
طَلْحَةَ اخْتِلَافًا كَثِيرَا بَيَّنْتُهُ فِي تَرْجَمَةِ جَاهِمَةَ مِنْ
كِتَابِي فِي الصَّحَابَةِ .
قَوْلُهُ : ( فِيهِمَا فَجَاهِدْ ) أَيْ خَصِّصْهُمَا
بِجِهَادِ النَّفْسِ فِي رِضَاهُمَا ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ التَّعْبِيرِ
عَنِ الشَّيْءِ بِضِدِّهِ إِذَا فُهِمَ الْمَعْنَى ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ
فِي قَوْلِهِ " فَجَاهِدْ " ظَاهِرُهَا
إِيصَالُ الضَّرَرِ الَّذِي كَانَ يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمَا لَهُمَا ، وَلَيْسَ
ذَلِكَ مُرَادًا قَطْعًا ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ إِيصَالُ الْقَدْرِ
الْمُشْتَرَكِ مِنْ كُلْفَةِ الْجِهَادِ وَهُوَ تَعَبُ الْبَدَنِ وَالْمَالِ ،
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُتْعِبُ النَّفْسَ يُسَمَّى جِهَادًا ،
وَفِيهِ أَنَّ بِرَّ الْوَالِدِ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الْجِهَادِ ، وَأَنَّ
الْمُسْتَشَارَ يُشِيرُ بِالنَّصِيحَةِ الْمَحْضَةِ ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفَ
يُسْتَفْضَلُ عَنِ الْأَفْضَلِ فِي أَعْمَالِ الطَّاعَةِ لِيُعْمَلَ بِهِ
لِأَنَّهُ سَمِعَ فَضْلَ الْجِهَادِ فَبَادَرَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ لَمْ يَقْنَعْ
حَتَّى اسْتَأْذَنَ فِيهِ فَدُلَّ عَلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي حَقِّهِ ، وَلَوْلَا
السُّؤَالُ مَا حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ . وَلِمُسْلِمٍ وَسَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ نَاعِمٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ
: ارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا "
وَلِأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو " ارْجِعْ
فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ
عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ : ارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَكَ
فَجَاهِدْ ، وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ . قَالَ
جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : يَحْرُمُ الْجِهَادُ إِذَا مَنَعَ الْأَبَوَانِ أَوْ
أَحَدُهُمَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا مُسْلِمَيْنِ ، لِأَنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ
عَيْنٍ عَلَيْهِ وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ
فَلَا إِذْنَ . وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ ، قَالَ :
الصَّلَاةُ . قَالَ ثُمَّ مَهْ قَالَ الْجِهَادُ
. قَالَ فَإِنَّ لِي وَالِدَيْنِ ، فَقَالَ آمُرُكَ
بِوَالِدَيْكَ خَيْرًا . فَقَالَ
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَأُجَاهِدَنَّ وَلأَتْرُكَنَّهُمَا ،
قَالَ فَأَنْتَ أَعْلَمُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى جِهَادِ فَرْضِ الْعَيْنِ
تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ ، وَهَلْ يُلْحَقُ الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ
بِالْأَبَوَيْنِ فِي ذَلِكَ ؟
الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ نَعَمْ وَالْأَصَحُّ
أَيْضًا أَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالرَّقِيقِ فِي ذَلِكَ لِشُمُولِ
طَلَبِ الْبِرِّ ، فَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا فَأَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ لَمْ
يُعْتَبَرْ إِذْنُ أَبَوَيْهِ ، وَلَهُمَا الرُّجُوعُ فِي الْإِذْنِ إِلَّا إِنْ حَضَرَ
الصَّفَّ ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَا أَنْ لَا يُقَاتِلَ فَحَضَرَ الصَّفَّ فَلَا
أَثَرَ لِلشَّرْطِ ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ السَّفَرِ بِغَيْرِ إِذْنِ
لِأَنَّ الْجِهَادَ إِذَا مُنِعَ مَعَ فَضِيلَتِهِ فَالسَّفَرُ الْمُبَاحُ أَوْلَى
نَعَمْ إِنْ كَانَ سَفَرُهُ لِتَعَلُّمِ فَرْضِ عَيْنٍ حَيْثُ تَعْيِينُ السَّفَرِ
طَرِيقًا إِلَيْهِ فَلَا مَنْعَ ، وَإِنْ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ فَفِيهِ خِلَافٌ
. وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَتَعْظِيمُ حَقِّهِمَا
وَكَثْرَةُ الثَّوَابِ عَلَى بِرِّهِمَا ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " .
(8)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ
ذَنْبًا عَظِيمًا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٌ؟ قَالَ: " هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟
قَالَ: لَا، قَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ
خَالَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَبِرَّهَا
" ( )
قَوْلُ مُحَمَّدٍ بِن عَلِيٍّ بِن سُلْطَان القَارِيِّ فِي
شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" ( وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فَقَالَ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أَصَبْتُ ) أَيْ : فَعَلْتُ ( ذَنْبًا عَظِيمًا ) أَيْ :
قَوْلِيًّا أَوْ فِعْلِيًّا ( فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟ )
أَيْ : رَجْعَةٍ بِطَاعَةٍ فِعْلِيَّةٍ بَعْدَ النَّدَامَةِ
الْقَلْبِيَّةِ تَدَارُكًا لِلْمَعْصِيَةِ الْعَظِيمَةِ ( قَالَ : هَلْ لَكَ مِنْ
أُمٍّ ؟ ) أَيْ : أَلَكَ أُمٌّ فَـ ( مِنْ ) زَائِدَةٌ ( قَالَ : لَا قَالَ : وَهَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ ؟ )
يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ " مِنْ " زَائِدَةً
أَوْ تَبْعِيضِيَّةً ( قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَبَرَّهَا
) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ
أَمْرٌ مِنْ بَرِرْتُ فُلَانًا بِالْكَسْرِ أَبَرُّهُ بِالْفَتْحِ ، أَيْ :
أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ ، فَأَنَا بَارٌّ بِهِ وَبَرٌّ بِهِ ، وَالْمَعْنَى : أَنَّ
صِلَةَ الرَّحِمِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تُذْهِبِ السَّيِّئَاتِ ، أَوْ
تَقُومُ مَقَامَهَا مِنَ الطَّاعَاتِ ، وَهُوَ أَحَدُ مَعانِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ
اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ قَالَ الْمُظْهِرُ :
يَجُوزُ أَنَّهُ أَرَادَ عَظِيمًا عِنْدِي ; لِأَنَّ
عِصْيَانَ اللَّهِ تَعَالَى عَظِيمٌ وَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ صَغِيرًا ، وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ ذَنْبُهُ كَانَ عَظِيمًا مِنَ الْكَبَائِرِ ، وَأَنَّ هَذَا النَّوْعَ
مِنَ الْبِرِّ يَكُونُ مُكَفِّرًا لَهُ ، وَكَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الرَّجُلِ
عَلِمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقِ
الْوَحْيِ . اهـ . وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ
عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ مُصِرٌّ غَيْرُ تَائِبٍ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ لِيَكُونَ
مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ ( رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
)" .
(9)
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ: " إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ
ثَلَاثَةٍ، إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ
وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " ( ).
قَالَ يَحْيَى بِن شَرَفٍ أَبِي زَكَرِيَّا النَّوَوِيِّ
فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ
صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ
قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ عَمَلَ الْمَيِّتِ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ
، وَيَنْقَطِعُ تَجَدُّدُ الْثوَابِ لَهُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ
الثَّلَاثَةِ ; لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبَهَا ; فَإِنَّ الْوَلَدَ مِنْ كَسْبِهِ ،
وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي خَلَّفَهُ مِنْ تَعْلِيمٍ أَوْ تَصْنِيفٍ ،
وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ ، وَهِيَ الْوَقْفُ
.
وَفِيهِ فَضِيلَةُ الزَّوَاجِ لِرَجَاءِ وَلَدٍ صَالِحٍ ، وَقَدْ
سَبَقَ بَيَانُ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي
كِتَابِ النِّكَاحِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ لِصِحَّةِ أَصْلِ الْوَقْفِ ، وَعَظِيمِ
ثَوَابِهِ ، وَبَيَانُ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ ، وَالْحَثُّ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ
مِنْهُ . وَالتَّرْغِيبُ فِي تَوْرِيثِهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّصْنِيفِ
وَالْإِيضَاحِ ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ مِنَ الْعُلُومِ الْأَنْفَعَ
فَالْأَنْفَعَ . وَفِيهِ
أَنَّ الدُّعَاءَ يَصِلُ ثَوَابُهُ إِلَى الْمَيِّتِ ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ ،
وَهُمَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا ، وَكَذَلِكَ قَضَاءُ الدَّيْنِ كَمَا سَبَقَ .
وَأَمَّا الْحَجُّ فَيَجْزِي عَنِ الْمَيِّتِ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ ، وَهَذَا دَاخِلٌ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ إِنْ كَانَ
حَجًّا وَاجِبًا ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا وَصَّى بِهِ وَهُوَ مِنْ بَابِ
الْوَصَايَا ، وَأَمَّا إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ فَالصَّحِيحُ أَنَّ
الْوَلِيَّ يَصُومُ عَنْهُ ، وَسَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ .
وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَجَعْلُ ثَوَابِهَا
لِلْمَيِّتِ وَالصَّلَاةُ عَنْهُ وَنَحْوُهُمَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَالْجُمْهُورِ أَنَّهَا لَا تَلْحَقُ الْمَيِّتَ ، وَفِيهَا خِلَافٌ ، وَسَبَقَ
إِيضَاحُهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّرْحِ فِي شَرْحِ مُقَدِّمَةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ " .
(10)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ , عَنْ أَبِيهِ ,
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , يَقُولُ:
" خَيْرُ مَا يُخَلِّفُ الرَّجُلُ بَعْدَهُ ثَلاثٌ , وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو
لَهُ , وَصَدَقَةٌ
تَجْرِي يَبْلُغُهُ أَجْرُهَا وَعِلْمٌ يُعْمَلُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ " ( ).
قَوْلُ أَبِي الحَسَنِ الحَنَفِيِّ وَ هُوَ الشَّهِيرُ
بِالسِّنْدِيِّ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" قَوْلُهُ ( مَا يُخَلِّفُ الرَّجُلُ ) مِنْ
خَلَّفَهُ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ أَخَّرَهُ بَعْدَ قَوْلُهُ ( يَدْعُو لَهُ ) أَيْ
فَيَصِلُ إِلَيْهِ آثَارُ دُعَائِهِ كَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ آثَارُ صَلَاحِهِ
وَفِيهِ حَثٌّ لِلْأَوْلَادِ عَلَى الدُّعَاءِ لِلْآبَاءِ قَوْلُهُ ( وَصَدَقَةٌ
تَجْرِي ) كَالْوَقْفِ
وَمَا أَوْصَى بِهِ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ فَإِنَّ أَجْرَهَا لَهُ وَلِوَارِثِهِ
(وَعِلْمٌ يُعْمَلُ بِهِ ) التَّصْنِيفُ
وَالتَّعْلِيمُ وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مَضْمُونُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا
مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ الْحَدِيثُ رَوَاهُ
مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فَهُوَ صَحِيحٌ مَعْنًى فَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي خُصُوصِ
هَذَا الطَّرِيقِ فَفِي الزَّوَائِدِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ " .
(11)
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، " أَنَّ
رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمِّي
افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا
أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ , قَالَ: نَعَمْ
" ( ).
قَوْلُهُ: ( افْتُلِتَتْ
) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَ الْفَاءِ السَّاكِنَةِ
وَكَسْرِ اللَّامِ أَيْ أُخِذَتْ فَلْتَةً أَيْ بَغْتَةً، وَقَوْلُهُ: ( نَفْسُهَا ) بِالضَّمِّ عَلَى الْأَشْهَرِ،
وَبِالْفَتْحِ أَيْضًا وَهُوَ مَوْتُ الْفَجْأَةِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ هُنَا
الرُّوحُ ( ).
قَوْلُ مُحَمَّدٍ بِن عَلِيٍّ بِن سُلْطَان القَارِيِّ فِي
شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" ( وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : إِنَّ رَجُلًا )
قِيلَ : هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ( قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ
أُمِّي ) قَالَ مِيرَكُ : هِيَ عَمْرَةُ بِنْتُ مَسْعُودِ بْنِ قَيْسِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ ، وَكَانَتْ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ ، تُوُفِّيَتْ سَنَةَ
خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ ( افْتُلِتَتْ ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ
الِافْتِلَاتِ وَقَوْلُهُ ( نَفْسَهَا ) بِالنَّصْبِ فِي الْأَكْثَرِ عَلَى
أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى نِيَابَةِ الْفِعْلِ ،
وَالْفَلْتَةُ : الْبَغْتَةُ ، وَالْأَصْلُ أَفْلَتَهَا اللَّهُ نَفْسَهَا أَيِ
اخْتَلَسَهَا نَفْسَهَا ، مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ ، ثُمَّ تُرِكَ ذِكْرُ
الْفَاعِلِ وَبُنِيَ لِلْمَفْعُولِ ، كَمَا تَقُولُ : اخْتَلَسْتُ الشَّيْءَ
وَاسْتَلَبْتُهُ ، وَقِيلَ : أُخِذَتْ نَفْسُهَا فَلْتَةً أَيْ مَاتَتْ فَجْأَةً ،
وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ ( وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ ) أَيْ لَوْ قَدَرَتْ
عَلَى الْكَلَامِ ( تَصَدَّقَتْ ) أَيْ مِنْ مَالِهَا بِشَيْءٍ أَوْ أَوْصَتْ
بِتَصَدُّقِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا ( فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا
؟ قَالَ : " نَعَمْ " ) قِيلَ : لَا يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ إِلَّا
الصَّدَقَةُ وَالدُّعَاءُ ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ
( مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
)" .
(12)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ
رَجُلًا، قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ
أُمَّهُ تُوُفِّيَتْ، أَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: "
نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ لِي مِخْرَافًا وَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ
عَنْهَا "( ).
قَالَ مُحَمَّدُ بِن عَلِيٍّ بِن مُحَمَّدٍ الشَّوْكَانِيِّ
فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" وَالْمَخْرَفُ وَالْمِخْرَافُ : الْحَدِيقَةُ
مِنْ النَّخْلِ أَوْ الْعِنَبِ أَوْ غَيْرِهِمَا قَوْلُهُ : ( قَالَ : سَقْيُ
الْمَاءِ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سَقْيَ الْمَاءِ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ " .
(13)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ
نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ فَانْحَطَّتْ
عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً،
فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ
إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ
أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ فَحَلَبْتُ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ
أَسْقِهِمَا قَبْلَ وَلَدِي، وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ فَمَا أَتَيْتُ
حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ
فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا، أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا
مِنْ نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا
وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي
وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ
ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ،
فَفَرَجَ اللَّهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ، وَقَالَ
الثَّانِي: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ
مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ
حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَلَقِيتُهَا
بِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ
اللَّهَ، وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إلا بحقه فَقُمْتُ عَنْهَا، اللَّهُمَّ فَإِنْ
كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا
مِنْهَا فَفَرَجَ لَهُمْ فُرْجَةً، وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ
اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ أَعْطِنِي
حَقِّي فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ
حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ
وَلَا تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ:
اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا، فَقَالَ:
اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَهْزَأْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَهْزَأُ بِكَ فَخُذْ
ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرَاعِيَهَا فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ بِهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ
أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ فَفَرَجَ
اللَّهُ عَنْهُمْ " ( ).
قَوْلُ مُحَمَّدٍ بِن عَلِيٍّ بِن سُلْطَان القَارِيِّ فِي
شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" ( عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : بَيْنَمَا )
بِالْمِيمِ ( ثَلَاثَةُ نَفَرٍ ) ، بِالْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ (
يَتَمَاشَوْنَ ) بِفَتْحِ الشِّينِ أَيْ : يَسِيرُونَ فِي طَرِيقٍ ( أَخَذَهُمُ
الْمَطَرُ ) ، أَيْ : جَاءَهُمْ
بِكَثْرَةٍ ( فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ ، فَانْحَطَّتْ ) أَيْ :
نَزَلَتْ وَوَقَعَتْ ( عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ ) أَيْ : حَجَرٌ كَبِيرٌ
مِنَ الْجَبَلِ ( فَأَطْبَقَتْ ) أَيِ : الصَّخْرَةُ
( عَلَيْهِمْ ) وَأَغْلَقَتْ عَلَيْهِمْ بَابَ الْغَارِ وَغَطَّتْهُمْ ( فَقَالَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ : انْظُرُوا ) أَيْ : تَفَكَّرُوا
وَتَذَكَّرُوا ( أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً ) ، صِفَةٌ أُخْرَى لِأَعْمَالٍ أَيْ :
خَالِصَةً لِوَجْهِهِ لَا رِيَاءَ وَلَا سُمْعَةَ فِيهَا ، يَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ : ابْتِغَاءُ وَجْهِكَ فِيمَا بَعْدُ . كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ ،
وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ : الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ : صَالِحَةٌ
صِفَةٌ لِأَعْمَالٍ ، وَفِي الْعِبَارَةِ تَقُدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيِ : انْظُرُوا
أَعْمَالًا صَالِحَةً لِلَّهِ ، فَأَخْرَجَ بِالْقَيْدِ الْأَوَّلِ الْأَعْمَالَ الْغَيْرَ
الصَّالِحَةِ ، وَبِالثَّانِي الْغَيْرَ الصَّالِحَةِ لِلَّهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا
وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا
صَالِحَةً لِلَّهِ . قُلْتُ : لَا شَكَّ أَنَّ كُلًّا مِنْ صَالِحَةٍ وَلِلَّهِ
صِفَةٌ لِأَعْمَالًا ، سَوَاءٌ أُخِّرَتْ إِحْدَاهُمَا أَوْ قُدِّمَتْ ،
وَإِنَّمَا حَمَلَ الطِّيبِيُّ الثَّانِيَةَ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ ;
لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي عُمِلَتْ لَا تَكُونُ إِلَّا صَالِحَةً ، لَكِنَّ
قَوْلَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : ابْتِغَاءُ وَجْهِكَ فِيمَا بَعْدُ
مُسْتَدْرَكٌ ; لِأَنَّهُ
فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ : لِلَّهِ ، نَعَمْ كَلَامُ السَّيِّدِ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ
، وَتَنْبِيهٌ نَبِيهٌ ، لَكِنْ عَلَى رِوَايَتِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا ، فَإِنَّهُ
لَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ ،
وَلِذَا قِيلَ : الْخَلْقُ كُلُّهُمْ هَلْكَى إِلَّا الْعَالِمُونَ ،
وَالْعَالِمُونَ كُلُّهُمْ هَلْكَى إِلَّا الْعَامِلُونَ ، وَالْعَامِلُونَ
كُلُّهُمْ هَلْكَى إِلَّا الْمُخْلِصُونَ ، وَالْمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ
. ( فَادْعُوَا اللَّهَ بِهَا ) أَيْ : بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ
وَبِجَعْلِهَا شَفِيعَةً وَوَسِيلَةً إِلَى إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ ( لَعَلَّهُ )
أَيْ : عَلَى
رَجَاءِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْ لِكَيْ ( يُفَرِّجُهَا ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ
الْمَكْسُورَةِ ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ :
يُزِيلُ الصَّخْرَةَ ، أَوْ يَكْشِفُ الْكُرْبَةَ ، فَفِي الْقَامُوسِ : فَرَّجَ
اللَّهُ الْغَمَّ يُفَرِّجُهُ : كَشَفَهُ كَفَرَجَهُ (
فَقَالَ أَحَدُهُمْ : اللَّهُمَّ إِنَّهُ ) أَيِ :
الشَّأْنُ ( كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ ، وَلِي صِبْيَةٌ )
بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ جَمْعُ صَبِيٍّ أَيْ : وَلِي أَيْضًا أَطْفَالٌ ( صِغَارٌ
كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ : أَرْعَى مَاشِيَتَهُمْ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : يُقَالُ فُلَانٌ
يَرْعَى عَلَى أَبِيهِ أَيْ : يَرْعَى
غَنَمَهُ . اهـ .
وَالتَّحْقِيقُ مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّ
الرَّعْيَ ضُمِّنَ مَعْنَى الْإِنْفَاقِ ، فَعُدِّيَ بِعَلَى أَيْ : أُنْفِقُ
عَلَيْهِمْ رَاعِيًا الْغُنَيْمَاتِ وَكَذَا قَوْلُهُ
: ( فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ ) ضُمِّنَ مَعْنَى
رَدَدْتُ أَيْ : إِذَا رَدَدْتُ الْمَاشِيَةَ مِنَ الْمَرْعَى إِلَى مَوْضِعِ
مَبِيتِهِمْ ( فَحَلَبْتُ
) : عَطْفٌ عَلَى رُحْتُ وَقَوْلُهُ : ( بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ ) جَوَابُ إِذَا وَقَوْلُهُ : (
أَسْقِيهِمَا ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُضَمُّ ( قَبْلَ وَلَدِي ) ،
بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمِّ الْوَاوِ وَيُسَكَّنُ اللَّامُ أَيْ : أَوْلَادِي ،
إِمَّا حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِلْعِلَّةِ ( وَإِنَّهُ ) أَيِ :
الشَّأْنُ ( قَدْ نَأَى بِي الشَّجَرُ ) ، أَيْ : بَعُدَ بِي طَلَبُ الْمَرْعَى
يَوْمًا ، وَفِي نُسْخَةٍ نَاءَ بِهَمْزٍ بَعْدَ الْأَلِفِ ، وَهُوَ كَرِوَايَةِ
ابْنِ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَنَأَى بِجَانِبِهِ قَالَ
النَّوَوِيُّ ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ : نَأَى بِجَعْلِ الْهَمْزَةِ قَبْلَ
الْأَلِفِ ، وَبِهِ قَرَأَ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ ، وَهُمَا لُغَتَانِ
أَيْ صَحِيحَتَانِ ( فَمَا أَتَيْتُ ) أَيْ
: إِلَيْهِمْ لِبُعْدِ الْمَرْعَى عَنْهُمْ ( حَتَّى أَمْسَيْتُ ) أَيْ : دَخَلْتُ فِي الْمَسَاءِ جِدًّا (
فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا ) ، أَيْ
: مِنَ الضَّعْفِ أَوْ مِنْ غَلَبَةِ الِانْتِظَارِ وَكَثْرَةِ الْإِبْطَاءِ (
فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ ) ، بِضَمِّ اللَّامِ وَيَجُوزُ كَسْرُهُ عَلَى
مَا فِي الْقَامُوسِ ( فَجِئْتُ ) أَيْ : إِلَيْهِمَا
( بِالْحِلَابِ ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ ، وَهُوَ الْإِنَاءُ الَّذِي يُحْلَبُ
فِيهِ ، قِيلَ : وَقَدْ يُرَادُ بِالْحِلَابِ هُنَا اللَّبَنُ الْمَحْلُوبُ
ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ ، فَيَكُونُ مَجَازًا بِذِكْرِ الْمَحَلِّ لِإِرَادَةِ
الْحَالِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَتَى بِالْحِلَابِ الَّذِي فِيهِ الْمَحْلُوبُ
اسْتِعْجَالًا ( فَقُمْتُ ) أَيْ : وَقَفْتُ
( عَلَى رُؤُوسِهِمَا ) أَيْ : عِنْدَ رُؤُوسِهِمَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ
( أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا ) ، اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ ( وَأَكْرَهُ )
يَعْنِي : أَيْضًا ( أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا ) أَيْ : مَعَ
أَنَّهُمْ غَيْرُ نَائِمِينَ لِأَجْلِ الْجُوعِ ( وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ )
بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ : يَضِجُّونَ وَيَصِيحُونَ مِنَ الْجُوعِ (
عِنْدَ قَدَمَيَّ ) ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ
وَالتَّخْفِيفِ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ ( فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ ) أَيْ : مَا
ذُكِرَ مِنَ الْوُقُوفِ وَغَيْرِهِ ( دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ ) بِالنَّصْبِ ، وَفِي
نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ عَادَتِي وَعَادَتُهُمْ ، وَالضَّمِيرُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالصِّبْيَةِ ( حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ) ، انْشَقَّ الصُّبْحُ وَظَهَرَ نُورُهُ
، وَالْمَعْنَى : أَنَّهُ
حِينَئِذٍ سَقَيْتُهُمَا أَوَّلًا ، ثُمَّ سَقَيْتُهُمْ ثَانِيًا تَقْدِيمًا
لِإِحْسَانِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْمَوْلُودِينَ لِتَعَارُضِ صِغَرِهِمْ
بِكِبَرِهِمَا ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْكَبِيرَ يَبْقَى كَالطِّفْلِ الصَّغِيرِ ،
وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِذَلِكَ أَبْلَاهُ اللَّهُ بِمَا هُنَالِكَ ( فَإِنْ
كُنْتَ ) أَيْ : يَا أَللَّهُ ( تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ
) ، وَالتَّرْدِيدُ فِي أَنَّ عَمَلَهُ ذَلِكَ هَلِ اعْتُبِرَ عِنْدَ اللَّهِ
لِإِخْلَاصٍ فِيهِ أَوْ لَا لِعَدَمِهِ ( فَافْرُجْ ) بِهَمْزِ وَصْلٍ وَضَمِّ
رَاءٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزِ قَطْعٍ وَكَسْرِ رَاءٍ . قَالَ مِيرَكُ :
بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ وَضَمِّ الرَّاءِ مِنَ الْفَرَجِ ، وَيَجُوزُ بِهَمْزِ
الْقَطْعِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الْإِفْرَاجِ أَيِ : اكْشِفْ ( لَنَا فُرْجَةً ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَيُفْتَحُ ( نَرَى
مِنْهَا السَّمَاءَ ، فَفَرَجَ ) بِتَخْفِيفِ
الرَّاءِ وَيُكْسَرُ أَيْ : كَشَفَ ( اللَّهُ لَهُمْ حَتَّى يَرَوْنَ السَّمَاءَ )
بِإِثْبَاتِ النُّونِ كَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ شَرْحِ السُّنَّةِ ، فَيَكُونُ
حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ كَقَوْلِكَ : شَرِبَتِ
الْإِبِلُ حَتَّى يَخْرُجَ بَطْنُهُ ، وَفِي بَعْضِهَا بِإِسْقَاطِهِ ،
وَحِينَئِذٍ يُضَمُّ الْوَاوُ وَصَلًا لِلِالْتِقَاءِ
.
( قَالَ الثَّانِي : اللَّهُمَّ إِنَّهُ ) أَيِ : الشَّأْنُ (
كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ أُحِبُّهَا ) قَالَ الطِّيبِيُّ : ذَكَرَ ضَمِيرَ
الشَّأْنِ وَالْمَذْكُورُ فِي التَّفْسِيرِ مُؤَنَّثٌ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ
ذَلِكَ . اهـ . وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ : وَقَعَ فِي كَلَامِ الْأَوَّلِ :
اللَّهُمَّ إِنَّهُ وَالثَّانِي اللَّهُمَّ إِنَّهَا ، وَالثَّالِثُ اللَّهُمَّ
إِنِّي ، وَهُوَ مِنَ التَّفَنُّنِ ، وَإِنَّهُ فِي الْأَوَّلِ ضَمِيرُ الشَّأْنِ
، وَفِي الثَّانِي لِلْقِصَّةِ وَنَاسَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْقِصَّةَ فِي امْرَأَةٍ .
اهـ . فَهَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ وَقَعَتْ
أَنَّهَا فِي كَلَامِ الثَّانِي خِلَافَ الْمِشْكَاةِ ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِبَارَةَ الْمِشْكَاةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مُسْلِمٍ لَفْظًا ، وَيَكُونُ
قَوْلُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مَعْنًى ( كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ
النِّسَاءَ ) ، أَيْ : حُبًّا شَدِيدًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى : يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ
قَالَ الطِّيبِيُّ : صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ، وَ ( مَا ) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ : أُحِبُّهَا
حُبًّا مِثْلَ أَشَدِّ حُبِّ الرِّجَالِ النِّسَاءَ ، أَوْ حَالًا أَيْ :
أُحِبُّهَا مُشَابِهًا حُبِّي أَشَدَّ حُبِّ الرِّجَالِ النِّسَاءَ ، وَنَظِيرُهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَخْشَوْنَ
النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
( أَشَدَّ خَشْيَةً ) حَالٌ عَلَى تَقْدِيرِ مُشْبِهِينَ أَشَدَّ خَشْيَةً مِنْ
أَهْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ ( فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا ) ، فِيهِ تَضْمِينُ
مَعْنَى الْإِرْسَالِ أَيْ : أَرْسَلْتُ
إِلَيْهَا طَالِبًا نَفْسَهَا ( فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا
) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالسُّكُونِ عَلَى
حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ أَيْ : أَجِيئُهَا ( بِمِائَةِ دِينَارٍ ،
فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ ، فَلَقِيتُهَا ) أَيْ : أَتَيْتُهَا
( بِهَا ، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا . قَالَتْ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ) يَحْتَمِلُ الِاسْمِيَّةَ
وَالْوَصْفِيَّةَ ( اتَّقِ اللَّهَ ) أَيْ
: عَذَابَهُ أَوْ مُخَالَفَتَهُ ( وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ
) بِفَتْحِ التَّاءِ ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَكَارَةِ ( فَقُمْتُ عَنْهَا )
أَيْ : مُعْرِضًا
عَنْ تَعَرُّضِهَا ( اللَّهُمَّ ) : فِيهِ زِيَادَةُ تَضَرُّعٍ ( فَإِنْ كُنْتَ ) قَالَ الطِّيبِيُّ :
عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيِ : اللَّهُمَّ
فَعَلْتُ ذَلِكَ ، فَإِنْ كُنْتَ ( تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ
) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ( اللَّهُمَّ ) مُقْحَمَةً بَيْنَ
الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ، لِتَأْكِيدِ الِابْتِهَالِ وَالتَّضَرُّعِ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يُقَدَّرُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْوَجْهُ
، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ السَّابِقَةُ وَاللَّاحِقَةُ ، وَإِنَّمَا
كَرَّرَ ( اللَّهُمَّ ) فِي هَذِهِ الْقَرِينَةِ دُونَ أُخْتَيْهَا ; لِأَنَّ
هَذَا الْمَقَامَ أَصْعَبُ الْمَقَامَاتِ وَأَشَقُّهَا ، فَإِنَّهُ رَدْعٌ لِهَوَى
النَّفْسِ فَرْقًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَقَامِهِ قَالَ تَعَالَى : وَأَمَّا
مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوَى قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : شَهْوَةُ الْفَرْجِ أَغْلَبُ الشَّهَوَاتِ
عَلَى الْإِنْسَانِ ، وَأَصْعَبُهَا عِنْدَ الْهَيَجَانِ عَلَى الْعَقْلِ ، فَمَنْ
تَرَكَ الزِّنَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الْقُدْرَةِ وَارْتِفَاعِ
الْمَوَانِعِ ، وَتَيَسُّرِ الْأَسْبَابِ ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ صِدْقِ
الشَّهْوَةِ حَازَ دَرَجَةَ الصِّدِّيقِينَ ، قَوْلُهُ ( ذَلِكَ ) أَيْ : مَا
ذَكَرَ ( ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ ، فَافْرُجْ لَنَا ) أَيْ : زِيَادَةً ( فُرْجَةً
مِنْهَا ) ، أَيْ : مِنْ هَذِهِ الْكُرَيَّةِ أَوِ الصَّخْرَةِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ
تَكُونَ ( مِنْ ) لِلتَّبْعِيضِ
أَيْ : بَعْضُ الْفُرْجَةِ ( فَفَرَجَ ) أَيِ : اللَّهُ
( لَهُمْ فُرْجَةً ) أَيْ : أُخْرَى ( وَقَالَ الْآخَرُ ) :
بِفَتْحِ الْخَاءِ ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا وَمَآلُهُمَا وَاحِدٌ ،
وَالثَّانِي أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ ( اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ
أَجِيرًا بِفَرْقِ أَرُزٍّ ) ، بِفَتْحِ هَمْزٍ وَضَمِّ رَاءٍ وَتَشْدِيدِ زَايٍ ،
وَفِي الْقَامُوسِ : الْأَرُزِّ كَأَشُدٍّ وَعُتُلٍّ وَقُفْلٍ وَطُنُبٍ ، وَرُزٌّ
وَرُنْزٌ وَإِرِزٌ كَإِبِلٍ وَأَرُزٌ كَعَضُدٍ . اهـ
. فَفِيهِ لُغَاتٌ بِعَدَدِ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ ،
وَالْفَرِقُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ . قَالَ الطِّيبِيُّ : الْفَرَقُ
بِفَتْحِ الرَّاءِ مِكْيَالٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا ، وَفِي الْقَامُوسِ :
الْفَرَقُ مِكْيَالٌ بِالْمَدِينَةِ يَسَعُ ثَلَاثَةَ آصَعٍ وَيُحَرَّكُ ، أَوْ
هُوَ أَفْصَحُ وَيَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا أَوْ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ . وَفِي النِّهَايَةِ : الْفَرَقُ
بِالتَّحْرِيكِ مِكْيَالٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا ، وَبِالسُّكُونِ مِائَةٌ
وَعِشْرُونَ رِطْلًا ، ثُمَّ قِيلَ : وَفِي رِوَايَةٍ بِفَرَقِ ذُرَةٍ ،
فَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْفَرَقَ كَانَ مِنْ صِنْفَيْنِ ( فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ )
أَيْ : عَمِلَ عَمَلَهُ وَانْتَهَى أَجَلُهُ ( قَالَ : أَعْطِنِي حَقِّي .
فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ ، تَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ ) أَيْ : أَعْرَضَ عَنْ
أَخْذِهِ لِمَانِعٍ أَوْ بَاعِثٍ ( فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ ) أَيِ : الْأَرُزُّ ( حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ ) أَيْ : مِنْ
ذَلِكَ الْأَرُزِّ أَوْ مِنْ زَرْعِهِ ( بَقَرًا وَرَاعِيَهَا ) ، أَيْ :
قِيمَتَهُمَا فَاشْتَرَيْتُهُمَا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ
فِي مَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ ، وَطَرِيقِ الْأَمَانَةِ ،
وَإِرَادَةِ الشَّفَقَةِ حَيْثُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ فِي حُكْمِ
التَّقْرِيرِ لَا يُقَالُ لَعَلَّ هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا ، فَإِنَّهُ قَدْ
وَرَدَ نَظِيرُهُ فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ دَفَعَ
قِيمَةَ كَبْشٍ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ فَاشْتَرَاهُ بِهَا فَبَاعَهُ بِضِعْفِ
ثَمَنِهِ ، وَاشْتَرَى كَبْشًا آخَرَ ، وَأَتَى بِهِ مَعَ قِيمَتِهِ فَدَعَا لَهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَرَكَةِ
( فَجَاءَنِي فَقَالَ : اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي ) :
ظَاهِرُ كَلَامِهِ عُنْفٌ ، لَكِنَّ بَاطِنَهُ حَقٌّ وَلُطْفٌ ( فَقُلْتُ :
اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقْرِ وَرَاعِيهَا
) .
قَالَ الطِّيبِيُّ : ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَقَرِ
بِاعْتِبَارِ السَّوَادِ الْمَرْئِيِّ ، كَمَا يُقَالُ : ذَلِكَ الْإِنْسَانُ أَوِ
الشَّخْصُ فَعَلَ كَذَا ، وَأُنِّثَ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إِلَى الْبَقَرِ بِاعْتِبَارِ
الْجِنْسِ ( فَقَالَ : اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَهْزَأْ بِي
) بِالْبَاءِ ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنُّونِ ، وَلَعَلَّهُ
تَوَهَّمَ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ كَلَامِهِ لَا تَظْلِمْنِي جَزَعٌ مَعَ
إِبْهَامِ قَوْلِهِ : اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ ( فَقُلْتُ : إِنِّي لَا أَهْزَأُ بِكَ
فَخُذْ ذَلِكَ الْبَقْرَ وَرَاعِيَهَا فَأَخَذَهُ ) أَيْ : مَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ ،
وَفِي نُسْخَةٍ فَأَخَذَهَا أَيْ : كُلَّهَا ( فَانْطَلَقَ بِهَا ) قَالَ مِيرَكُ عِنْدَ قَوْلِهِ : حَتَّى
جَمَعْتُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا : وَقَعَ
فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ ، فَثَمَرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنَ
الْأَمْوَالِ ، وَفِيهَا : فَقُلْتُ لَهُ : كُلُّ مَا تَرَى مِنَ الْإِبِلِ
وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ مِنْ أَجْرِكَ ، وَفِيهَا : فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا ،
فَدَلَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ
الْمَذْكُورَةِ فِي الْمِشْكَاةِ : ( جَمَعْتُ
بَقَرًا ) أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ جَمْعَ الْبَقَرِ فَقَطْ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَكْثَرَ
الْأَغْلَبَ ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ
أَنَّهُ دَفَعَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى
أَنَّهَا كَانَتْ قِيمَةَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ . قُلْتُ : وَلَا بِدَعَ
أَنَّ الدَّرَاهِمَ مِنْ زَوَائِدِ الْفَوَائِدِ مُنْضَمَّةٌ إِلَيْهَا ، فَإِنَّ
الْبَرَكَةَ تُوَافِي ( فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ
وَجْهِكَ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ ) أَيْ : مِنْ إِطْبَاقِ الْبَابِ ( فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) .
فَإِنْ قُلْتَ : رُؤْيَةُ الْأَعْمَالِ نُقْصَانٌ عِنْدَ
أَهْلِ الْكَمَالِ ، فَمَا بَالُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ ؟ قُلْتُ : فَكَأَنَّهُمْ
تَوَسَّلُوا بِمَا وَقَعَ لَهُ تَعَالَى مَعَهُمْ مِنْ تَوْفِيقِ الْعَمَلِ
الصَّالِحِ الْمَقْرُونِ بِالْإِخْلَاصِ ، عَلَى أَنَّهُ يُنْجِيهِمْ مِنْ مَضِيقِ
الْهَلَاكِ إِلَى قَضَاءِ الْخَلَاصِ ، فَكَأَنَّمَا قَالُوا : كَمَا أَنْعَمْتَ
عَلَيْنَا بِمَعْرُوفِكَ أَوَّلًا فَأَتِمَّ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ ثَانِيًا ،
فَإِنَّا لَا نَسْتَغْنِي عَنْ كَرَمِكَ أَبَدًا . قَالَ النَّوَوِيُّ :
اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ
يَدْعُوَ فِي حَالِ كَرْبِهِ ، وَفِي الِاسْتِسْقَاءِ وَغَيْرِهِ ، وَيَتَوَسَّلَ
بِصَالِحِ عَمَلِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ فَعَلُوهُ ، وَاسْتُجِيبَ
لَهُمْ ، وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
مَعْرِضِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَجَمِيلِ فَضَائِلِهِمْ ، وَفِيهِ فَضْلُ بِرِّ
الْوَالِدَيْنِ وَإِيثَارُهَا عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا مِنَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ ،
وَفِيهِ فَضْلُ الْعَفَافِ وَالِانْكِفَافِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ ، لَا سِيَّمَا
بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ
وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ .
قُلْتُ : لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ لِلْوَلِيِّ
وَغَيْرِهِ ، مَا عَدَا الْكَافِرَ ، فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ
لِاسْتِجَابَةِ دُعَاءِ إِبْلِيسَ . وَالِاسْتِدْلَالُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ
وَرَدَ فِي دُعَاءِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ ، بِخِلَافِ الدُّنْيَا ، فَإِنَّهُ
وَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " اتَّقِ
دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَ إِنْ كَانَ كَافِرًا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهُ حِجَابٌ
" عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ ، فَمِثْلُ هَذَا لَا
يُعَدُّ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ ; لِأَنَّ الْكَرَامَةَ مِنْ أَنْوَاعِ خَوَارِقِ
الْعَادَةِ قَالَ : وَتَمَسَّكَ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ
مِمَّنْ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْإِنْسَانِ مَالَ غَيْرِهِ ، وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَأَجَابَ
أَصْحَابُنَا بِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا ، وَفِي
كَوْنِهِ شَرْعًا لَنَا خِلَافٌ ، فَإِنْ قُلْنَا
: إِنَّا مُتَعَبِّدُونَ بِهِ ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى
أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ فِي الذِّمَّةِ ، وَلَمْ يُسَلَّمْ إِلَيْهِ ، بَلْ
عَرَضَهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْبِضْهُ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ وَلَمْ يَصِرْ مِلْكَهُ ،
فَالْمُسْتَأْجِرُ قَدْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، ثُمَّ تَبَرَّعَ بِمَا
اجْتَمَعَ مِنْهُ مِنَ الْبَقْرِ وَالْغَنَمِ وَغَيْرِهِمَا . قُلْتُ : وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ اسْتَأْجَرَهُ فِي
الذِّمَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ ;
حَيْثُ قَالَ : اسْتَأْجَرْتُ
أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ ، وَإِلَّا
فَالْإِجَارَةُ الْمَجْهُولَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ عِنْدَهُمْ ، وَكَذَا يَرُدُّ
عَلَيْهِ قَوْلُهُ : فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ
; لِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ
تَعْيِينٍ لَا يُسَمَّى حَقَّهُ ، فَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ وَلَا
يُوصَلَ تَقْلِيدٌ وَيَفْرَغَ . ( مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
)" .
(14)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ
سَلُولَ وَهُوَ فِي ظِلٍّ، فَقَالَ: قَدْ غَبَّرَ عَلَيْنَا ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ،
فَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ وَأَنْزَلَ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَئِنْ شِئْتَ لآتِيَنَّكَ بِرَأْسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا، وَلَكِنْ بِرَّ أَبَاكَ
وَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُ "( )
(15)
عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِمْتُ فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ
فَسَمِعْتُ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ "، فَقَالُوا:
هَذَا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَذَلِكَ الْبِرُّ، كَذَلِكَ الْبِرُّ، وَكَانَ
أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ " ( ).
(16)
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ:
" أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِسْعٍ: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ
شَيْئًا، وَإِنْ قُطِّعْتَ أَوْ حُرِّقْتَ، وَلا تَتْرُكَنَّ الصَّلاةَ
الْمَكْتُوبَةَ مُتَعَمِّدًا، وَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا بَرِئَتْ مِنْهُ
الذِّمَّةُ، وَلا تَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ، فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ،
وَأَطِعْ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ دُنْيَاكَ فَاخْرُجْ
لَهُمَا، وَلا تُنَازِعَنَّ وُلاةَ الأَمْرِ، وَإِنْ رَأَيْتَ أَنَّكَ أَنْتَ،
وَلا تَفْرُرْ مِنَ الزَّحْفِ، وَإِنْ هَلَكْتَ وَفَرَّ أَصْحَابُكَ، وَأَنْفِقْ
مِنْ طَوْلِكَ عَلَى أَهْلِكَ، وَلا تَرْفَعْ عَصَاكَ عَنْ أَهْلِكَ، وَأَخِفْهُمْ
فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " ) )
(17)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا شَابٌّ مِنَ الثَّنِيَّةِ، فَلَمَّا
رَمَيْنَاهُ بِأَبْصَارِنَا، قُلْنَا: لَوْ أَنَّ ذَا الشَّابَّ جَعَلَ نَشَاطَهُ وَشَبَابَهُ
وَقُوَّتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَمِعَ مَقَالَتَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " وَمَا سَبِيلُ اللَّهِ إِلا مِنْ
قَتْلٍ؟ مَنْ سَعَى عَلَى وَالِدَيْهِ فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ سَعَى عَلَى
عِيَالِهِ فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ سَعَى مُكَاثِرًا فَفِي سَبِيلِ
الطَّاغُوتِ " (( .
عَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــاقِبَةُ عُقُوقِ
الوَالِدَينِ كَمَا وَرَدَ بِصَحِيحِ السُنَّـــــــــــــــــــــــةِ
-1-
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: سُئِلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَبَائِرِ؟ قَالَ: "
الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ،
وَشَهَادَةُ الزُّورِ " ( ).
قَوْلُ أَحْمَدٍ بِن عَلِيٍ بِن حَجَرٍ العَسْقَلَانِيِّ
فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" قَوْلُهُ : ( لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ :
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ فِي
ذَمِّ مُتَعَاطِي شَهَادَةِ الزُّورِ ، وَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِأَحَدِ مَا قِيلَ
فِي تَفْسِيرِهَا ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالزُّورِ هُنَا الشِّرْكُ وَقِيلَ
الْغِنَاءُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ . قَالَ الطَّبَرِيُّ : أَصْلُ الزُّورِ
تَحْسِينُ الشَّيْءِ وَوَصْفُهُ بِخِلَافِ صِفَتِهِ حَتَّى يُخَيَّلَ لِمَنْ سَمِعَهُ
أَنَّهُ بِخِلَافِ مَا هُـوَ بِهِ قَالَ
: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ
مَدْحُ مَنْ لَا يَشْهَدُ شَيْئًا مِنَ الْبَاطِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : ( وَكِتْمَانُ
الشَّهَادَةِ ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ أَيْ وَمَا قِيلَ فِي
كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ مِنَ الْوَعِيدِ
.
قَوْلُهُ : ( لِقَوْلِهِ
تَعَالَى : وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ - إِلَى قَوْلِهِ - عَلِيمٌ
وَالْمُرَادُ مِنْهَا قَوْلُهُ : فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبِهِ
.
قَوْلُهُ : ( تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ
الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ :
وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا أَيْ تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ
أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ : تَلْوِي لِسَانَكَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهِيَ اللَّجْلَجَةُ
فَلَا تُقِيمُ الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا التَّرْكُ .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ طُرُقٍ حَاصِلُهَا أَنَّهُ فَسَّرَ اللَّيَّ بِالتَّحْرِيفِ
، وَالْإِعْرَاضَ بِالتَّرْكِ وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِنَظْمِ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ
مَعَ شَهَادَةِ الزُّورِ إِلَى هَذَا الْأَثَرِ وَإِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ شَهَادَةِ
الزُّورِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا لِإِبْطَالِ الْحَقِّ فَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ
أَيْضًا سَبَبٌ لِإِبْطَالِ الْحَقِّ وَإِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ
أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا " إِنَّ
بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ - فَذَكَرَ أَشْيَاءَ ثُمَّ قَالَ - وَظُهُورَ شَهَادَةِ
الزُّورِ ، وَكِتْمَانَ شَهَادَةِ الْحَقِّ " ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ
حَدِيثَيْنِ .
قَوْلُهُ : ( عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ
) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْآتِيَةِ فِي
الْأَدَبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ " حَدَّثَنِي عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ
" .
قَوْلُهُ : ( سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْكَبَائِرِ
) زَادَ بَهْزٌ عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ " أَوْ
ذَكَرَهَا " وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ " ذَكَرَ
الْكَبَائِرَ أَوْ سُئِلَ عَنْهَا " وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَبَائِرِ
أَكْبَرُهَا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الَّذِي يَلِيهِ ، وَكَذَا وَقَعَ
فِي بَعْضِ الطُّرُقِ عَنْ شُعْبَةَ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ وَلَيْسَ الْقَصْدُ
حَصْرَ الْكَبَائِرِ فِيمَا ذَكَرَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فِي تَعْرِيفِهَا وَالْإِشَارَةُ إِلَى تَعْيِينِهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ " اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ " وَهُوَ فِي
آخِرِ كِتَابِ الْوَصَايَا .
قَوْلُهُ : ( وَشَهَادَةُ
الزُّورِ ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ " قَوْلُ الزُّورِ أَوْ
قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ " قَالَ شُعْبَةُ : " وَأَكْثَرُ ظَنِّي
أَنَّهُ قَالَ : شَهَادَةُ الزُّورِ " .
قَوْلُهُ : ( تَابَعَهُ غُنْدَرٌ ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ
الْمَذْكُورُ .
قَوْلُهُ : ( وَأَبُو
عَامِرٍ وَبَهْزٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ ) أَمَّا رِوَايَةُ أَبِي عَامِرٍ وَهُوَ
الْعَقْدِيُ فَوَصَلَهَا أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ فِي كِتَابِ الشُّهُودِ
وَابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ
" أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ " الْحَدِيثَ ،
وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الدِّيَاتِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ
شُعْبَةَ بِلَفْظِ " أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ
" .
وَأَمَّا رِوَايَةُ بَهْزٍ وَهُوَ ابْنُ أَسَدٍ الْمَذْكُورِ
فَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ عَنْهُ . أَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ الصَّمَدِ وَهُوَ ابْنُ
عَبْدِ الْوَارِثِ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الدِّيَاتِ
" .
-2-
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ
اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ "( )
قَوْلُ مُحَمَّدٍ بِن عَلِيٍّ بِن سُلْطَان القَارِيِّ فِي
شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
( وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ) ، أَيِ : ابْنِ
الْعَاصِ ( قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا
الْوَالِدِ ) وَكَذَا حُكْمُ الْوَالِدَةِ ، بَلْ هِيَ أَوْلَى ( وَسُخْطُ
الرَّبِّ فِي سُخْطِ الْوَالِدِ . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ) أَيْ : مِنْ طَرِيقِ
يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا قَالَ : وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ ، وَأَخْرَجَهُ
ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ : " رِضَا اللَّهِ فِي
رِضَا الْوَالِدِ وَسُخْطُ اللَّهِ فِي سُخْطِ الْوَالِدِ " كَذَا فِي
التَّصْحِيحِ ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو ، وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ . وَرَوَاهُ
الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو ، وَلَفْظُهُ : " رِضَا الرَّبِّ فِي
رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسُخْطُهُ فِي سُخْطِهِمَا " ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ
، فِي حَدِيثِ الْأَصْلِ : رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ
عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : " طَاعَةُ اللَّهِ طَاعَةُ الْوَالِدِ وَمَعْصِيَةُ
اللَّهِ مَعْصِيَةُ الْوَالِدِ " . رَوَاهُ
الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَوِ ابْنِ عَمْرٍو ، وَلَا يَحْضُرُنِي
الْآنَ أَيُّهُمَا وَلَفْظُهُ قَالَ : " رِضَا الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسُخْطُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سُخْطِ
الْوَالِدَيْنِ " .
-3-
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ رَجُلٌ فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ،
فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي، ثُمَّ أَتَتْهُ، فَقَالَتْ:
اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ
فِي صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: لَأَفْتِنَنَّ
جُرَيْجًا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَكَلَّمَتْهُ، فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا،
فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ
جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ،
فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا
غُلَامُ؟ قَالَ: الرَّاعِي، قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ:
لَا، إِلَّا مِنْ طِينٍ " ( ).
قَوْلُ أَحْمَدٍ بِن عَلِيٍ بِن حَجَرٍ العَسْقَلَانِيِّ
فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" قَوْلُهُ : " فَقَالُوا نَبْنِي
صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ : لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ " وَقَالَ قَبْلَ
ذَلِكَ " فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ " وَتَوْجِيهُ
الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ، وَهُوَ كَذَلِكَ
إِذَا لَمْ يَأْتِ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ ،
لَكِنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِقِصَّةِ جُرَيْجٍ فِيمَا تَرْجَمَ بِهِ نَظَرٌ ،
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ : الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِيمَا
تَرْجَمَ لَهُ ; لِأَنَّهُمْ عَرَضُوا عَلَيْهِ مَا لَا يَلْزَمُهُمُ اتِّفَاقًا
وَهُوَ بِنَاؤُهَا مِنْ ذَهَبٍ ، وَمَا أَجَابَهُمْ جُرَيْجٌ إِلَّا بِقَوْلِهِ :
" مِنْ طِينٍ " وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهَا قَالَ : وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْهَادِمَ لَوِ الْتَزَمَ الْإِعَادَةَ
وَرَضِيَ صَاحِبُهُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ . قَالَ : وَيُحْتَمَلُ عَلَى أَصْلِ
مَالِكٍ أَنْ لَا يَجُوزَ ، لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِمَا وَجَبَ نَاجِزًا وَهُوَ
الْقِيمَةُ إِلَّا مَا يَتَأَخَّرُ وَهُوَ الْبُنْيَانُ . قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي
قَوْلِهِ : " لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ " شَاهِدٌ عَلَى حَذْفِ
الْمَجْزُومِ بِلَا فَإِنَّ التَّقْدِيرَ لَا تَبْنُوهَا إِلَّا مِنْ طِينٍ " .
-4-
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ
عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ
وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ
" ( ).
قَالَ يَحْيَى بِن شَرَفٍ أَبِي زَكَرِيَّا النَّوَوِيِّ
فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" قَالَ الْعُلَمَاءُ : الرِّضَا وَالسُّخْطُ
وَالْكَرَاهَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُرَادُ بِهَا أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ ، وَثَوَابُهُ
وَعِقَابُهُ ، أَوْ إِرَادَتُهُ الثَّوَابَ لِبَعْضِ الْعِبَادِ ، وَالْعِقَابَ لِبَعْضِهِمْ
، وَأَمَّا الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ فَهُوَ التَّمَسُّكُ بِعَهْدِهِ ،
وَهُوَ اتِّبَاعُ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَحُدُودِهِ ، وَالتَّأَدُّبِ بِأَدَبِهِ .
وَالْحَبْلُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَهْدِ ، وَعَلَى الْأَمَانِ ، وَعَلَى الْوَصْلَةِ
، وَعَلَى السَّبَبِ ، وَأَصْلُهُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ الْحَبْلَ فِي
مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ لِاسْتِمْسَاكِهِمْ بِالْحَبْلِ عِنْدَ شَدَائِدِ
أُمُورِهِمْ ، وَيُوصِلُونَ بِهَا الْمُتَفَرِّقَ ، فَاسْتُعِيرَ اسْمُ الْحَبْلِ لِهَذِهِ
الْأُمُورِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
وَلَا تَفَرَّقُوا ) فَهُوَ أَمْرٌ بِلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ
وَتَأَلُّفِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ، وَهَذِهِ إِحْدَى قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْمَرْضِيَّةَ إِحْدَاهَا :
أَنْ يَعْبُدُوهُ ، وَالثَّانِيَةُ : أَلَّا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ،
الثَّالِثَةُ : أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ وَلَا يَتَفَرَّقُوا ،
وَأَمَّا ( قِيلَ وَقَالَ ) فَهُوَ الْخَوْضُ فِي أَخْبَارِ النَّاسِ ،
وَحِكَايَاتِ مَا لَا يَعْنِي مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ .
وَاخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَةِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى
قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا فِعْلَانِ فَـ
" قِيلَ " : مَبْنًى لِمَا لَمْ يُسَمَّ
فَاعِلُهُ ، وَ " قَالَ " فِعْلٌ مَاضٍ . وَالثَّانِي أَنَّهُمَا
اسْمَانِ مَجْرُورَانِ مُنَوَّنَانِ ; لِأَنَّ
الْقِيلَ والْقَالَ وَالْقَوْلَ وَالْقَالَةَ كُلُّهُ بِمَعْنًى ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ :
كَثُرَ الْقِيلُ وَالْقَالُ .
وَأَمَّا ( كَثْرَةُ السُّؤَالِ ) : فَقِيلَ : الْمُرَادُ
بِهِ الْقَطْعُ فِي الْمَسَائِلِ ، وَالْإِكْثَارُ مِنَ السُّؤَالِ عَمَّا لَمْ
يَقَعْ ، وَلَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةٌ ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ
الصَّحِيحَةُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ ، وَكَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ ، وَيَرَوْنَهُ
مِنَ التَّكَلُّفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَفِي الصَّحِيحِ
: كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ سُؤَالُ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ
، وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالنَّهْيِ
عَنْ ذَلِكَ ، وَقِيلَ : يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ السُّؤَالِ عَنْ
أَخْبَارِ النَّاسِ ، وَأَحْدَاثِ الزَّمَانِ ، وَمَا لَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ ،
وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ هَذَا مِنَ النَّهْيِ عَنْ قِيلَ وَقَالَ ،
وَقِيلَ : يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ سُؤَالِ الْإِنْسَانِ عَنْ
حَالِهِ وَتَفَاصِيلِ أَمْرِهِ ، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي سُؤَالِهِ عَمَّا لَا
يَعْنِيهِ ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ حُصُولُ الْحَرَجِ فِي حَقِّ الْمَسْئُولِ ،
فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُؤْثِرُ إِخْبَارَهُ بِأَحْوَالِهِ ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ شَقَّ
عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَذَبَهُ فِي الْإِخْبَارِ أَوْ تَكَلَّفَ التَّعْرِيضَ
لَحِقَتْهُ الْمَشَقَّةُ ، وَإِنْ أَهْمَلَ جَوَابَهُ ارْتَكَبَ سُوءَ الْأَدَبِ .
وَأَمَّا ( إِضَاعَةُ الْمَالِ )
: فَهُوَ صَرْفُهُ فِي غَيْرِ وُجُوهِهِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَتَعْرِيضُهُ
لِلتَّلَفِ ، وَسَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُ إِفْسَادٌ ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ ، وَلِأَنَّهُ إِذَا أَضَاعَ مَالُهُ تَعَرَّضَ لِمَا فِي أَيْدِي
النَّاسِ .
وأَمَّا ( عُقُوقُ
الْأُمَّهَاتِ ) فَحَرَامٌ ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ ،
وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى عَدِّهِ مِنَ الْكَبَائِرِ ،
وَكَذَلِكَ عُقُوقُ الْآبَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ هُنَا
عَلَى الْأُمَّهَاتِ لِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ آكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الْآبَاءِ ،
وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ السَّائِلُ :
مَنْ أَبَرُّ ؟ قَالَ : " أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ " ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ
فِي الرَّابِعَةِ : " ثُمَّ
أَبَاكَ " . وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْعُقُوقِ يَقَعُ لِلْأُمَّهَاتِ ،
وَيَطْمَعُ الْأَوْلَادُ فِيهِنَّ ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْعُقُوقِ ،
وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ
.
وَأَمَّا ( وَأْدُ الْبَنَاتِ )
بِالْهَمْزِ ، فَهُوَ دَفْنُهُنَّ فِي حَيَاتِهِنَّ ;
فَيَمُتْنَ تَحْتَ التُّرَابِ ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ
الْمُوبِقَاتِ ، لِأَنَّهُ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَيَتَضَمَّنُ أَيْضًا قَطِيعَةَ
الرَّحِمِ ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْبَنَاتِ ، لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ
الَّذِي كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( وَمَنْعًا وَهَاتِ ) وَفِي
الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : ( وَلَا وَهَاتِ ) فَهُوَ بِكَسْرِ التَّاءِ مِنْ (
هَاتِ ) . وَمَعْنَى الْحَدِيثِ : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَمْنَعَ الرَّجُلُ مَا
تَوَجَّهَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ أَوْ يَطْلُبَ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَفِي قَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( حَرَّمَ ثَلَاثًا وَكَرِهَ ثَلَاثًا )
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ
لِلتَّنْزِيهِ ، لَا لِلتَّحْرِيمِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ
.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ
اللَّهَ حَرَّمَ ثَلَاثًا وَنَهَى عَنْ ثَلَاثٍ ، حَرَّمَ عُقُوقَ الْوَالِدِ
وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَلَا وَهَاتِ وَنَهَى عَنْ ثَلَاثٍ : قِيلَ وَقَالَ
وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ ) هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِمَنْ
يَقُولُ : إِنَّ النَّهْيَ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ
يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ
خَرَجَ بِدَلِيلٍ آخَرَ .
وقَوْلُهُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ ( عَنْ خَالِدٍ
الْحَذَّاءِ عَنِ ابْنِ أَشْوَعَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ
بْنِ شُعْبَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ ) هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ أَرْبَعَةٌ
تَابِعِيُّونَ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ، وَهُمْ خَالِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ أَشْوَعَ وَهُوَ تَابِعِيٌّ سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ سَلَمَةَ
الْجُعْفِيَّ الصَّحَابِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- التَّابِعِيُّ الثَّالِثُ : الشَّعْبِيُّ ، وَالرَّابِعُ :
كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ ، وَهُوَ وَرَّادٌ
.
قَوْلُهُ : كَتَبَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ :
سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْمُكَاتَبَةِ عَلَى هَذَا
الْوَجْهِ ، فَيَبْدَأُ سَلَامٌ عَلَيْكَ ، كَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ :
" السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى " .
-5-
وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: مَا خَصَّنَا بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ
إِلَّا مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا، فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً فِيهَا: "
لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ
مَنَارَ الْأَرْضِ " وَفِي رِوَايَةٍ: " مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ
وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَوْلُ مُحَمَّدٍ بِن عَلِيٍّ بِن سُلْطَان القَارِيِّ فِي
شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" ( وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ ) : بِالتَّصْغِيرِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . قَالَ
الْمُؤَلِّفُ : هُوَ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ الْكِنَانِيُّ ،
غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ ، أَدْرَكَ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِي سِنِينَ ، وَمَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ وَاثْنَتَيْنِ
بِمَكَّةَ ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ ،
رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ . ( قَالَ : سُئِلَ
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَلْ خَصَّكُمْ ) أَيْ : أَهْلَ بَيْتِ
النُّبُوَّةِ ( رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ )
أَيْ : مِنْ آيَةٍ ، أَوْ سُنَّةٍ ( فَقَالَ : مَا خَصَّنَا بِشَيْءٍ ) أَيْ :
بِتَحْدِيثِ شَيْءٍ ( لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ إِلَّا مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي
) : بِكَسْرِ الْقَافِ ، وَهُوَ وِعَاءٌ يَكُونُ فِيهِ السَّيْفُ بِغِمْدِهِ أَيْ
: مَا هُوَ مَدْسُوسٌ فِي غِلَافِ سَيْفِي (
هَذَا ) : وَلَعَلَّهُ ذُو الْفَقَارِ الَّذِي وَهَبَهُ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذَا
الِاسْتِثْنَاءُ إِمَّا مُتَّصِلٌ مَبْنِيًّا عَلَى ظَنِّهِ ، أَوْ مُنْقَطِعٌ ، وَالْمَعْنَى
لَكِنْ مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي مَا أَدْرِي هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِنَا ، أَوْ
يَعُمُّ النَّاسَ أَيْضًا ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ بَابِ
الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ : وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ : سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ وَفِي بَيَانِ التَّخْصِيصِ (
فَأَخْرَجَ ) أَيْ : عَلِيٌّ مَنِ الْقِرَابِ ( صَحِيفَةً ) أَيْ : كِتَابًا عَلَى
مَا فِي النِّهَايَةِ وَالْقَامُوسِ ( فِيهَا : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ
اللَّهِ ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ
) : بِفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ مَنَارَةٍ ، وَهَى
عَلَامَةُ الْأَرَاضِي الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا حُدُودُهَا . قَالَ ابْنُ
الْمَلَكِ أَيْ : يُرِيدُ اسْتِبَاحَةَ مَا لَيْسَ لَهُ مِنْ حَقِّ الْجَارِ .
وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ وَغَيْرُهُ : الْمَنَارُ الْعَلَمُ وَالْحَدُّ بَيْنَ الْأَرْضِ
، وَذَلِكَ بِأَنْ يُسَوِّيَهُ ، أَوْ يُغَيِّرَهُ لِيَسْتَبِيحَ بِذَلِكَ مَا
لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ مِنْ مِلْكٍ ، أَوْ طَرِيقٍ . ( وَفِي رِوَايَةٍ : مَنْ
غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ ) أَيْ : رَفَعَهَا وَجَعَلَهَا فِي أَرْضِهِ
وَرَفَعَهَا لِيَقْتَطِعَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ الْجَارِ إِلَى جَارِهِ . (
وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ ) أَيْ :
صَرِيحًا ، أَوْ تَسَبُّبًا بِأَنْ لَعَنَ وَالِدَ أَحَدٍ
فَيَسُبُّ وَالِدَهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) فَالنَّهْيُ عَنِ السَّبَبِ احْتِرَازٌ
عَنِ التَّسَبُّبِ . ( وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى ) : بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ
فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى ، ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ . وَأَنْكَرَ
بَعْضُهُمُ الْقَصْرَ ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ : هِيَ فَصِيحَةٌ ، كَذَا ذَكَرَهُ
زَيْنُ الْعَرَبِ . ( مُحْدِثًا ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَهُوَ مَنْ جَنَى عَلَى
غَيْرِهِ جِنَايَةً وَإِيوَاؤُهُ إِجَارَتُهُ مِنْ خَصْمِهِ وَحِمَايَتِهِ عَنِ
التَّعَرُّضِ لَهُ ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَحِقُّ
اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ قِصَاصٍ ، أَوْ عِقَابٍ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْجَانِي
عَلَى الْإِسْلَامِ بِإِحْدَاثِ بِدْعَةٍ إِذَا حَمَاهُ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُ ،
وَالْأَخْذِ عَلَى يَدِهِ لِدَفْعِ عَادِيَتِهِ ، كَذَا ذَكَرَهُ
التُّورِبِشْتِيُّ وَغَيْرُهُ . ( رَوَاهُ مُسْلِمٌ ) : وَكَذَا أَحْمَدُ
وَالنَّسَائِيُّ " .
-6-
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ،
قَالَ: أَشْهَدُ لَقَدْ سَمِعْتُ سَالِمًا , يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاثٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ،
وَلَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْعَاقُّ وَالِدَيْهِ،
وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ، الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ، وَالدَّيُّوثُ،
وَثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْعَاقُّ
وَالِدَيْهِ، وَالْمُدْمِنُ الْخَمْرَ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى " ( ).
-7-
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " أَلَا
أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَجَلَسَ
وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ
" ( )
قَوْلُ أَحْمَدٍ بِن عَلِيٍ بِن حَجَرٍ العَسْقَلَانِيِّ
فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" ( قَوْلُهُ بَابُ مَنِ اتَّكَأَ بَيْنَ يَدَيْ
أَصْحَابِهِ ) قِيلَ الِاتِّكَاءُ الِاضْطِجَاعُ وَقَدْ مَضَى فِي حَدِيثِ عُمَرَ
فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ : وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى سَرِيرٍ " أَيْ مُضْطَجِعٌ
بِدَلِيلِ قَوْلِهِ " قَدْ أَثَّرَ السَّرِيرُ فِي جَنْبِهِ " كَذَا
قَالَ عِيَاضٌ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مَعَ عَدَمِ تَمَامِ
الِاضْطِجَاعِ وَقَدْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ : كُلُّ مُعْتَمِدٍ عَلَى شَيْءٍ
مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ فَهُوَ مُتَّكِئٌ وَإِيرَادُ الْبُخَارِيِّ حَدِيثَ خَبَّابٍ الْمُعَلَّقَ
يُشِيرُ بِهِ إِلَى أَنَّ الِاضْطِجَاعَ اتِّكَاءٌ وَزِيَادَةٌ وَأَخْرَجَ
الدَّارِمِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ هُوَ وَأَبُو عَوَانَةَ وَابْنُ
حِبَّانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ " وَنَقَلَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ عَنْ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ كَرِهَ الِاتِّكَاءَ
وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ فِيهِ رَاحَةً كَالِاسْتِنَادِ وَالِاحْتِبَاءِ
قَوْلُهُ وَقَالَ خَبَّابٌ ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ
وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ أَيْضًا هُوَ ابْنُ الْأَرَتِّ
الصَّحَابِيُّ وَهَذَا الْقَدْرُ الْمُعَلَّقُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لَهُ تَقَدَّمَ
مَوْصُولًا فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ فِي أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ
وَأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ لِقولِهِ فِيهِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَدْ
تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْأَدَبِ وَوَرَدَ فِي
مِثْلِ ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ لَمَّا قَالَ
أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالُوا ذَلِكَ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ
" قَالَ الْمُهَلَّبُ : يَجُوزُ لِلْعَالِمِ وَالْمُفْتِي وَالْإِمَامِ الِاتِّكَاءُ
فِي مَجْلِسِهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ لِأَلَمٍ يَجِدُهُ فِي بَعْضِ أَعْضَائِهِ
أَوْ لِرَاحَةٍ يَرْتَفِقُ بِذَلِكَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي عَامَّةِ جُلُوسِهِ " .
-8-
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ
مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ " قِيلَ،
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: "
يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ " ( ).
قَوْلُ أَحْمَدٍ بِن عَلِيٍ بِن حَجَرٍ العَسْقَلَانِيِّ
فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" قَوْلُهُ : ( إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ
أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ) سَيَأْتِي بَعْدَ بَابِ عَدِّ الْعُقُوقِ
فِي أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، وَالْمَذْكُورُ هُنَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ
الْعُقُوقِ ، وَإِنْ كَانَ التَّسَبُّبُ إِلَى لَعْنِ الْوَالِدِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ
فَالتَّصْرِيحُ بِلَعْنِهِ أَشَدُّ ، وَتَرْجَمَ بِلَفْظِ السَّبِّ وَسَاقَهُ
بِلَفْظِ اللَّعْنِ إِشَارَةً إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ ، وَقَدْ
وَقَعَ أَيْضًا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَهُوَ فِي " الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ
" مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ عِيَاضٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو
يَقُولُ : " مِنَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ
وَالِدَهُ " وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي
" الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ " مِنْ طَرِيقِ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ كِلَاهُمَا
عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِلَفْظِ مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَفِي
رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَشْتُمَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ
.
قَوْلُهُ : ( قِيلَ
: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ) ؟ هُوَ
اسْتِبْعَادٌ مِنَ السَّائِلِ ; لِأَنَّ الطَّبْعَ الْمُسْتَقِيمَ يَأْبَى ذَلِكَ
، فَبَيَّنَ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَاطَ السَّبَّ بِنَفْسِهِ
فِي الْأَغْلَبِ الْأَكْثَرِ لَكِنْ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ التَّسَبُّبُ فِيهِ وَهُوَ
مِمَّا يُمْكِنُ وُقُوعَهُ كَثِيرًا . قَالَ
ابْنُ بَطَّالٍ : هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ وَيُؤْخَذُ
مِنْهُ أَنَّ مَنْ آلَ فِعْلُهُ إِلَى مُحَرَّمٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ
الْفِعْلُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى مَا يَحْرُمُ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ . وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْمَاوَرْدِيُّ مَنْعَ بَيْعِ
الثَّوْبِ الْحَرِيرِ مِمَّنْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَلْبَسُهُ ، وَالْغُلَامِ
الْأَمْرَدِ مِمَّنْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ الْفَاحِشَةَ ،
وَالْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا . وَقَالَ
الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ
حَقِّ الْأَبَوَيْنِ . وَفِيهِ
الْعَمَلُ بِالْغَالِبِ لِأَنَّ الَّذِي يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ يَجُوزُ أَنْ
يَسُبَّ الْآخَرُ أَبَاهُ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَفْعَلَ لَكِنَّ الْغَالِبَ أَنْ
يُجِيبَهُ بِنَحْوِ قَوْلِهِ . وَفِيهِ مُرَاجَعَةُ الطَّالِبِ لِشَيْخِهِ فِيمَا
يَقُولُهُ مِمَّا يُشْكِلُ عَلَيْهِ وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْكَبَائِرِ وَسَيَأْتِي
الْبَحْثُ فِيهِ قَرِيبًا ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ يَفْضُلُ الْفَرْعَ بِأَصْلِ
الْوَضْعِ وَلَوْ فَضَلَهُ الْفَرْعُ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ
" .
-9-
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " الْكَبَائِرُ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ،
وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ قَالَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ " ( )
قَوْلُ أَحْمَدٍ بِن عَلِيٍ بِن حَجَرٍ العَسْقَلَانِيِّ
فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" قَوْلُهُ : ( عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ مِنَ
الْكَبَائِرِ ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ " عُمَرُ " بِضَمِّ
الْعَيْنِ ، وَلِلْأَصِيلِيِّ عَمْرٌو بِفَتْحِهَا ، وَكَذَا هُوَ فِي بَعْضِ
النُّسَخِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ
الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مَوْصُولًا مِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ
: الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ
النَّفْسِ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَلِابْنِ عُمَرَ حَدِيثٌ فِي الْعَاقِّ
أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ
بِلَفْظِ ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ :
الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ ، وَالْمَنَّانُ وَأَخْرَجَ
أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَيْضًا نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا لَكِنْ
قَالَ : الدَّيُّوثُ بَدَلَ الْمَنَّانِ وَالدَّيُّوثُ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ
تَحْتَانِيَّةٍ وَآخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ بِوَزْنِ فَرُّوجٍ وَقَعَ تَفْسِيرُهُ فِي
نَفْسِ الْخَبَرِ أَنَّهُ الَّذِي يُقِرُّ الْخُبْثَ فِي أَهْلِهِ ، وَالْعُقُوقُ
بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِّ وَهُوَ الْقَطْعُ ،
وَالْمُرَادُ بِهِ صُدُورُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ مِنْ
قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ إِلَّا فِي شِرْكٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ مَا لَمْ يَتَعَنَّتِ الْوَالِدُ
، وَضَبَطَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِمَا فِي الْمُبَاحَاتِ فِعْلًا
وَتَرْكًا وَاسْتِحْبَابُهَا فِي الْمَنْدُوبَاتِ ، وَفُرُوضِ الْكِفَايَةِ
كَذَلِكَ ، وَمِنْهُ تَقْدِيمُهُمَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ كَمَنْ
دَعَتْهُ أُمُّهُ لِيُمَرِّضَهَا مَثَلًا بِحَيْثُ يَفُوتُ عَلَيْهِ فِعْلُ
وَاجِبٍ إِنِ اسْتَمَرَّ عِنْدَهَا وَيَفُوتُ مَا قَصَدَتْهُ مِنْ تَأْنِيسِهِ
لَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ لَوْ تَرَكَهَا وَفَعَلَهُ وَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ
تَدَارُكُهُ مَعَ فَوَاتِ الْفَضِيلَةِ كَالصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ أَوْ فِي الْجَمَاعَةِ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ
أَحَادِيثَ أيْضًا : أَوَّلُهَا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ .
قَوْلُهُ : ( عَنْ
مَنْصُورٍ ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ ، وَالْمُسَيِّبُ هُوَ ابْنُ رَافِعٍ ،
وَوَرَّادٌ هُوَ كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ
كُوفِيُّونَ . وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ مَنْصُورٍ لَهُ مِنَ الْمُسَيَّبِ
فِي الدَّعَوَاتِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِقْرَاضِ مِنْ رِوَايَةِ
عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ كَالَّذِي هُنَا ،
وَذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي " الْأَطْرَافِ
" أَنَّ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ عَنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ
ذِكْرَ عُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ فَقَطْ ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هُوَ
بِتَمَامِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ; لَكِنَّهُ فِي الْأَصْلِ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ
مُطَوَّلٌ سَيَأْتِي فِي الْقَدَرِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ .
وَفِي الرِّقَاقِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ وَرَّادٍ أَنَّ
مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ
، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي التَّهْلِيلِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ ، قَالَ : وَكَانَ يَنْهَى
، فَذَكَرَ مَا هُنَا ، وَسَيَأْتِي فِي الدَّعَوَاتِ أَوَّلُهُ فَقَطْ مِنْ
رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ عَنْ جَرِيرٍ دُونَ مَا فِي آخِرِهِ
. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ فَرَّقَهُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ عَنْ
مَنْصُورٍ فِي مَوْضِعَيْنِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ شَيْخِهِ هَكَذَا
، وَتَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الشَّعْبِيِّ مُقْتَصِرًا
عَلَى الَّذِي هُنَا أَيْضًا .
قَوْلُهُ : ( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ
الْأُمَّهَاتِ ) تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِقْرَاضِ الْإِشَارَةُ إِلَى حِكْمَةِ
اخْتِصَاصِ الْأُمِّ بِالذِّكْرِ ، وَهُوَ مِنْ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ
إِظْهَارًا لِعِظَمِ مَوْقِعِهِ . وَالْأُمَّهَاتُ جَمْعُ أُمَّهَةٍ وَهِيَ لِمَنْ
يَعْقِلُ ، بِخِلَافِ لَفْظِ الْأُمِّ فَإِنَّهُ أَعَمُّ
.
قَوْلُهُ : ( وَمَنْعًا
وَهَاتِ ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَفِي الِاسْتِقْرَاضِ "
وَمَنْعَ " بِغَيْرِ تَنْوِينٍ ، وَهِيَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِسُكُونِ
النُّونِ مَصْدَرٌ مَنَعَ يَمْنَعُ ، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي
الْكَلَامِ عَلَى " قِيلَ وَقَالَ " وَأَمَّا
هَاتِ فَبِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الْإِيتَاءِ قَالَ الْخَلِيلُ
: أَصْلُ هَاتِ آتِ فَقُلِبَتِ الْأَلِفُ هَاءً
. وَالْحَاصِلُ مِنَ النَّهْيِ مَنْعُ مَا أُمِرَ
بِإِعْطَائِهِ وَطَلَبُ مَا لَا يَسْتَحِقُّ أَخْذَهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
النَّهْيُ عَنِ السُّؤَالِ مُطْلَقًا كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ
قَرِيبًا ، وَيَكُونُ ذِكْرُهُ هُنَا مَعَ ضِدِّهِ ثُمَّ أُعِيدَ تَأْكِيدًا لِلنَّهْيِ
عَنْهُ ، ثُمَّ هُوَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَدْخُلَ فِي النَّهْيِ مَا يَكُونُ خِطَابًا
لِاثْنَيْنِ كَمَا يُنْهَى الطَّالِبُ عَنْ طَلَبِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ
وَيُنْهَى الْمَطْلُوبُ مِنْهُ عَنْ إِعْطَاءِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ الطَّالِبُ
لِئَلَّا يُعِينَهُ عَلَى الْإِثْمِ .
قَوْلُهُ : ( وَوَأْدُ
الْبَنَاتِ ) بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ هُوَ دَفْنُ الْبَنَاتِ بِالْحَيَاةِ ،
وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ كَرَاهَةً فِيهِنَّ ،
وَيُقَالُ : إِنَّ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ التَّمِيمِيُّ
، وَكَانَ بَعْضُ أَعْدَائِهِ أَغَارَ عَلَيْهِ فَأَسَرَ بِنْتَهُ فَاتَّخَذَهَا
لِنَفْسِهِ ثُمَّ حَصَلَ بَيْنَهُمْ صُلْحٌ فَخَيَّرَ ابْنَتَهُ فَاخْتَارَتْ
زَوْجَهَا ، فَآلَى قَيْسٌ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا تُولَدَ لَهُ بِنْتٌ إِلَّا
دَفَنَهَا حَيَّةً ، فَتَبِعَهُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ ، وَكَانَ مِنَ الْعَرَبِ فَرِيقٌ
ثَانٍ يَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ مُطْلَقًا ، إِمَّا نَفَاسَةً مِنْهُ عَلَى مَا
يَنْقُصُهُ مِنْ مَالِهِ ، وَإِمَّا مِنْ عَدَمِ مَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ
ذَكَرَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ ، وَكَانَ
صَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ التَّمِيمِيِّ أَيْضًا وَهُوَ جَدُّ الْفَرَزْدَقِ
هَمَّامُ بْنُ غَالِبِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَوَّلُ مَنْ فَدَى الْمَوْءُودَةَ ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَعْمِدُ إِلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ
فَيَفْدِيَ الْوَلَدَ مِنْهُ بِمَالٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ ، وَإِلَى ذَلِكَ
أَشَارَ الْفَرَزْدَقُ بِقَوْلِهِ :
وَجَدِّي الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ وَأَحْيَا
الْوَئِيدَ فَلَمْ يُوأَدِ
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي ، وَقَدْ
بَقِيَ كُلٌّ مِنْ قَيْسٍ وَصَعْصَعَةَ إِلَى أَنْ أَدْرَكَا الْإِسْلَامَ
وَلَهُمَا صُحْبَةٌ ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْبَنَاتَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ كَانَ
الْغَالِبُ مِنْ فِعْلِهِمْ ، لِأَنَّ الذُّكُورَ مَظِنَّةُ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ
. وَكَانُوا فِي صِفَةِ الْوَأْدِ عَلَى طَرِيقَيْنِ
: أَحَدُهُمَا أَنْ يَأْمُرَ امْرَأَتَهُ إِذَا قَرُبَ
وَضْعُهَا أَنْ تُطْلِقَ بِجَانِبِ حَفِيرَةٍ ، فَإِذَا وَضَعَتْ ذَكَرًا
أَبْقَتْهُ وَإِذَا وَضَعَتْ أُنْثَى طَرَحَتْهَا فِي الْحَفِيرَةِ ، وَهَذَا
أَلْيَقِ بِالْفَرِيقِ الْأَوَّلِ . وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ إِذَا صَارَتِ
الْبِنْتُ سُدَاسِيَّةً قَالَ لِأُمِّهَا : طَيِّبِيهَا وَزَيِّنِيهَا لِأَزُورَ بِهَا
أَقَارِبَهَا ، ثُمَّ يَبْعُدُ بِهَا فِي الصَّحْرَاءِ حَتَّى يَأْتِيَ الْبِئْرِ
فَيَقُولُ لَهَا انْظُرِي فِيهَا وَيَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا وَيَطِمُّهَا ،
وَهَذَا اللَّائِقُ بِالْفَرِيقِ الثَّانِي ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : ( وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ ) فِي
رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ " وَكَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ " كَذَا لِلْأَكْثَرِ
فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ
الْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا " قِيلًا وَقَالًا " وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ ،
وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَمْ تَقَعْ بِهِ
الرِّوَايَةُ ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : قِيلَ وَقَالَ اسْمَانِ ، يُقَالُ كَثِيرُ
الْقِيلِ وَالْقَالِ ، كَذَا جَزَمَ بِأَنَّهُمَا اسْمَانِ ، وَأَشَارَ إِلَى
الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ بِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِمَا . وَقَالَ
ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : لَوْ كَانَا اسْمَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْقَوْلِ
لَمْ يَكُنْ لِعَطْفِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَائِدَةٌ ، فَأَشَارَ إِلَى
تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ . وَقَالَ
الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي قِيلَ وَقَالَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ
لِلْقَوْلِ ، تَقُولُ قُلْتُ قَوْلًا وَقِيلًا وَقَالًا وَالْمُرَادُ فِي
الْأَحَادِيثِ الْإِشَارَةُ إِلَى كَرَاهَةِ كَثْرَةِ الْكَلَامِ لِأَنَّهَا
تُئَوِّلُ إِلَى الْخَطَأِ ، قَالَ : وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي
الزَّجْرِ عَنْهُ ، ثَانِيهَا : إِرَادَةُ حِكَايَةِ أَقَاوِيلِ النَّاسِ
وَالْبَحْثُ عَنْهَا لِيُخْبِرَ عَنْهَا فَيَقُولُ : قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَقِيلَ
كَذَا ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ إِمَّا لِلزَّجْرِ عَنِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ ، وَإِمَّا
لِشَيْءٍ مَخْصُوصٍ مِنْهُ وَهُوَ مَا يَكْرَهُهُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ .
ثَالِثُهَا : أَنَّ ذَلِكَ فِي حِكَايَةِ الِاخْتِلَافِ فِي أُمُورِ الدِّينِ
كَقَوْلِهِ : قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا ، وَمَحَلُّ كَرَاهَةِ
ذَلِكَ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يُؤْمَنُ مَعَ الْإِكْثَارِ مِنَ
الزَّلَلِ ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ يَنْقُلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ ،
وَلَكِنْ يُقَلِّدُ مَنْ سَمِعَهُ وَلَا يَحْتَاطُ لَهُ . قُلْتُ : وَيُؤَيِّدُ
ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ
مَا سَمِعَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَفِي " شَرْحِ الْمِشْكَاةِ "
قَوْلُهُ : قِيلَ وَقَالَ مِنْ قَوْلِهِمْ قِيلَ كَذَا وَقَالَ كَذَا ،
وَبِنَاؤُهُمَا عَلَى كَوْنِهِمَا فِعْلَيْنِ مَحْكِيَّيْنِ مُتَضَمِّنَيْنِ
لِلضَّمِيرِ وَالْإِعْرَابِ عَلَى إِجْرَائِهِمَا مَجْرَى الْأَسْمَاءِ خِلْوَيْنِ
مِنَ الضَّمِيرِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : " إِنَّمَا الدُّنْيَا قِيلَ وَقَالَ " وَإِدْخَالُ حَرْفِ
التَّعْرِيفِ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ : مَا يُعْرَفُ الْقَالُ الْقِيلُ لِذَلِكَ .
قَوْلُهُ : ( وَكَثْرَةُ السُّؤَالِ
) تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ
فِي الْمُرَادِ مِنْهُ وَهَلْ هُوَ سُؤَالُ الْمَالِ ، أَوِ السُّؤَالُ عَنِ الْمُشْكِلَاتِ
وَالْمُعْضِلَاتِ ، أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَأَنَّ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى
الْعُمُومِ . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ
كَثْرَةُ السُّؤَالِ عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ وَأَحْدَاثِ الزَّمَانِ ، أَوْ
كَثْرَةُ سُؤَالِ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ عَنْ تَفَاصِيلِ حَالِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ
مِمَّا يَكْرَهُ الْمَسْئُولُ غَالِبًا . وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ
الْأُغْلُوطَاتِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ ، وَثَبَتَ
عَنْ جَمْعٍ مِنَ السَّلَفِ كَرَاهَةَ تَكَلُّفِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ
وُقُوعُهَا عَادَةً أَوْ يَنْدُرُ جِدًّا ، وَإِنَّمَا كَرِهُوا ذَلِكَ لِمَا
فِيهِ مِنَ التَّنَطُّعِ وَالْقَوْلِ بِالظَّنِّ ، إِذْ لَا يَخْلُو صَاحِبُهُ
مِنَ الْخَطَأِ وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي اللِّعَانِ فَكَرِهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا ، وَكَذَا فِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - :
لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ فَذَلِكَ خَاصٌّ
بِزَمَانِ نُزُولِ الْوَحْيِ ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ حَدِيثِ أَعْظَمُ النَّاسِ
جُرْمًا عِنْدَ اللَّهِ مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ
مَسْأَلَتِهِ وَثَبَتَ أَيْضًا ذَمُّ السُّؤَالِ لِلْمَالِ وَمَدْحُ مَنْ لَا
يُلْحِفُ فِيهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا
وَتَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ حَدِيثُ لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِالْعَبْدِ حَتَّى
يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ : لِذِي
فَقْرٍ مُدْقِعٍ ، أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ ، أَوْ جَائِحَةٍ وَفِي السُّنَنِ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ عَبَّاسٍ : إِذَا
سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ
سَائِلًا فَاسْأَلِ الصَّالِحِينَ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ،
وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ طَلَبُ مُبَاحٍ فَأَشْبَهَ
الْعَارِيَةَ ، وَحَمَلُوا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ عَلَى مَنْ سَأَلَ مِنَ
الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، لَكِنْ قَالَ
النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ
. قَالَ : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سُؤَالِ الْقَادِرِ
عَلَى الْكَسْبِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا التَّحْرِيمُ لِظَاهِرِ
الْأَحَادِيثِ . وَالثَّانِي
: يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ : أَنْ لَا يُلِحَّ وَلَا
يُذِلَّ نَفْسَهُ زِيَادَةً عَلَى ذُلِّ نَفْسِ السُّؤَالِ ، وَلَا يُؤْذِي
الْمَسْئُولَ . فَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ حَرُمَ
. وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : يُتَعَجَّبُ مِمَّنْ قَالَ
بِكَرَاهَةِ السُّؤَالِ مُطْلَقًا مَعَ وُجُودِ السُّؤَالِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ثُمَّ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، فَالشَّارِعُ لَا يُقِرُّ عَلَى
مَكْرُوهٍ . قُلْتُ : لَعَلَّ
مَنْ كَرِهَ مُطْلَقًا أَرَادَ أَنَّهُ خِلَافَ الْأَوْلَى ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ
وُقُوعِهِ أَنْ تَتَغَيَّرَ صِفَتُهُ وَلَا مِنْ تَقْرِيرِهِ أَيْضًا ، وَيَنْبَغِي
حَمْلُ حَالِ أُولَئِكَ عَلَى السَّدَادِ ، وَأَنَّ السَّائِلَ مِنْهُمْ غَالِبًا
مَا كَانَ يَسْأَلُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ ، وَفِي قَوْلِهِ :
" مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ " نَظَرٌ فَفِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ
الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّ السُّؤَالِ كِفَايَةٌ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ .
( تَنْبِيهٌ ) : جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا سَأَلَ
لِنَفْسِهِ ، وَأَمَّا إِذَا سَأَلَ لِغَيْرِهِ فَالَّذِي يَظْهَرُ أَيْضًا
أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ
.
قَوْلُهُ : ( وَإِضَاعَةُ الْمَالِ ) تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِقْرَاضِ
أَنَّ الْأَكْثَرَ حَمَلُوهُ عَلَى الْإِسْرَافِ فِي الْإِنْفَاقِ ، وَقَيَّدَهُ
بَعْضُهُمْ بِالْإِنْفَاقِ فِي الْحَرَامِ ، وَالْأَقْوَى أَنَّهُ مَا أُنْفِقَ
فِي غَيْرِ وَجْهِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا سَوَاءٌ كَانَتْ دِينِيَّةً أَوْ
دُنْيَوِيَّةً فَمَنَعَ مِنْهُ ; لِأَنَّ
اللَّهَ - تَعَالَى - جَعَلَ الْمَالَ قِيَامًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ ، وَفِي
تَبْذِيرِهَا تَفْوِيتُ تِلْكَ الْمَصَالِحِ ، إِمَّا فِي حَقِّ مُضَيِّعِهَا
وَإِمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ كَثْرَةُ إِنْفَاقِهِ
فِي وُجُوهِ الْبِرِّ لِتَحْصِيلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ مَا لَمْ يُفَوِّتْ حَقًّا
أُخْرَوِيًّا أَهَمَّ مِنْهُ . وَالْحَاصِلُ
فِي كَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ
: إِنْفَاقُهُ فِي الْوُجُوهِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا فَلَا
شَكَّ فِي مَنْعِهِ ، وَالثَّانِي : إِنْفَاقُهُ فِي الْوُجُوهِ الْمَحْمُودَةِ شَرْعًا
فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ ، وَالثَّالِثُ :
إِنْفَاقُهُ فِي الْمُبَاحَاتِ بِالْأَصَالَةِ كَمَلَاذِّ النَّفْسِ ، فَهَذَا
يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ
بِحَالِ الْمُنْفِقِ وَبِقَدْرِ مَالِهِ ، فَهَذَا لَيْسَ بِإِسْرَافٍ .
وَالثَّانِي : مَا لَا يَلِيقُ بِهِ عُرْفًا ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى
قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا يَكُونُ لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ إِمَّا نَاجِزَةٍ
أَوْ مُتَوَقَّعَةٍ ، فَهَذَا لَيْسَ بِإِسْرَافٍ ، وَالثَّانِي : مَا لَا يَكُونُ
فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِسْرَافٌ ، وَذَهَبَ بَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِسْرَافٍ قَالَ : لِأَنَّهُ تَقُومُ بِهِ
مَصْلَحَةُ الْبَدَنِ وَهُوَ غَرَضٌ صَحِيحٌ ، وَإِذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ
فَهُوَ مُبَاحٌ لَهُ . قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ
: وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَمْنَعُ مَا قَالَ ا ه . وَقَدْ
صَرَّحَ بِالْمَنْعِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فَقَالَ فِي كِتَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ
: هُوَ حَرَامٌ ، وَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ ، وَجَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي الْكَلَامِ
عَلَى الْمَغَارِمِ ، وَصَحَّحَ فِي بَابِ الْحَجْرِ مِنَ الشَّرْحِ وَفِي
الْمُحَرَّرِ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَبْذِيرٍ ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ ، وَالَّذِي
يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ لَيْسَ مَذْمُومًا لِذَاتِهِ ;
لَكِنَّهُ يُفْضِي غَالِبًا إِلَى ارْتِكَابِ الْمَحْذُورِ
كَسُؤَالِ النَّاسِ ، وَمَا أَدَّى إِلَى الْمَحْذُورِ فَهُوَ مَحْذُورٌ . وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ الْبَحْثُ فِي جَوَازِ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ الْمَالِ
وَأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ لِمَنْ عُرِفَ مَنْ نَفْسِهِ الصَّبْرُ عَلَى
الْمُضَايَقَةِ ، وَجَزَمَ الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِمَنْعِ اسْتِيعَابِ
جَمِيعِ الْمَالِ بِالصَّدَقَةِ قَالَ : وَيُكْرَهُ كَثْرَةُ إِنْفَاقِهِ فِي
مَصَالِحِ الدُّنْيَا ، وَلَا بَأْسَ بِهِ إِذَا وَقَعَ نَادِرًا لِحَادِثٍ
يَحْدُثُ كَضَيْفٍ أَوْ عِيدٍ أَوْ وَلِيمَةٍ . وَمِمَّا لَا خِلَافَ فِي
كَرَاهَتِهِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْبِنَاءِ زِيَادَةً
عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ
الْمُبَالَغَةَ فِي الزَّخْرَفَةِ وَمِنْهُ احْتِمَالُ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِي الْبِيَاعَاتِ
بِغَيْرِ سَبَبٍ . وَأَمَّا إِضَاعَةُ الْمَالِ فِي الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَخْتَصُّ
بِارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهَا سُوءُ الْقِيَامِ عَلَى
الرَّقِيقِ وَالْبَهَائِمِ حَتَّى يَهْلِكُوا ، وَدَفْعُ مَالِ مَنْ لَمْ يُؤْنَسْ
مِنْهُ الرُّشْدُ إِلَيْهِ ، وَقَسْمُهُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِجُزْئِهِ
كَالْجَوْهَرَةِ النَّفِيسَةِ . وَقَالَ السُّبْكِيُّ
الْكَبِيرُ فِي " الْحَلَبِيَّاتِ " : الضَّابِطُ فِي إِضَاعَةِ
الْمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ لِغَرَضٍ دِينِيٍّ وَلَا دُنْيَوِيٍّ ، فَإِنِ
انْتَفَيَا حَرُمَ قَطْعًا ، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا وُجُودًا لَهُ بَالٌ
وَكَانَ الْإِنْفَاقُ لَائِقًا بِالْحَالِ وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ جَازَ قَطْعًا ،
وَبَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ وَسَائِطُ كَثِيرَةٌ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ ضَابِطٍ .
فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَرَى فِيمَا تَيَسَّرَ مِنْهَا رَأْيَهُ ، وَأَمَّا مَا
لَا يَتَيَسَّرُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ ; فَالْإِنْفَاقُ فِي الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ
كُلُّهُ ، وَلَا نَظَرَ إِلَى مَا يَحْصُلُ فِي مَطْلُوبِهِ مِنْ قَضَاءِ شَهْوَةٍ
وَلَذَّةٍ حَسَنَةٍ . وَأَمَّا إِنْفَاقُهُ فِي الْمَلَاذِّ الْمُبَاحَةِ فَهُوَ
مَوْضِعُ الِاخْتِلَافِ ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَالَّذِينَ إِذَا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا
أَنَّ الزَّائِدَ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْفِقِ إِسْرَافٌ . ثُمَّ
قَالَ : وَمَنْ بَذَلَ مَالًا كَثِيرًا فِي غَرَضٍ يَسِيرٍ تَافِهٍ عَدَّهُ
الْعُقَلَاءُ مُضَيِّعًا ، بِخِلَافِ عَكْسِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ
الطِّيبِيُّ : هَذَا الْحَدِيثُ
أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ حُسْنِ الْخُلُقِ ، وَهُوَ تَتَبُّعُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ
الْحَمِيدَةِ وَالْخِلَالِ الْجَمِيلَةِ
" .
كَيْفَ تَبِرُّ وَالِدَيكَ ( كَمَا فِي صَحِيحِ السُنَّةِ )
(1)
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ،
فَأَتَانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فقَالَ: أَتَدْرِي لِمَ أَتَيْتُكَ؟
قَالَ: قُلْتُ لا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ،
فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ " وَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي
عُمَرَ وَبَيْنَ أَبِيكَ إِخَاءٌ وَوُدٌّ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَصِلَ ذَاكَ" ( ).
(2)
عَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ
أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُدَّتِهِمْ مَعَ أَبِيهَا فَاسْتَفْتَتْ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا، قَالَ:
" نَعَمْ صِلِيهَا " ( ).
قَوْلُ مُحَمَّدٍ بِن عَلِيٍّ بِن سُلْطَان القَارِيِّ فِي
شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" ( وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ) أَيِ :
الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ ( رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا ، قَالَتْ : قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي ) أَيْ
: مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ ( وَهِيَ مُشْرِكَةٌ )
أَيْ : مَا أَسْلَمَتْ بَعْدُ ( فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ ) : مُتَعَلِّقٌ بِقَدِمَتْ
أَيْ : كَانَ
ذَلِكَ الْقُدُومُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ عَهْدُ الْمُصَالَحَةِ بَيْنَهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ قُرَيْشٍ عَلَى تَرْكِ قِتَالِهِمْ
فِيهَا ( فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ ) أَيْ
: نَزَلَتْ عِنْدِي ( وَهِيَ
رَاغِبَةٌ ) : بِالْمُوَحَّدَةِ أَيْ : مُعْرِضَةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ أَوْ
مَائِلَةٌ فِيهِ ، أَوْ رَاغِبَةٌ فِي صِلَتِي أَوْ رَاغِبَةٌ فِي الْإِشْرَاكِ ،
وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَاغِمَةٌ بِالْمِيمِ أَيْ : كَارِهَةٌ إِسْلَامِي
وَهِجْرَتِي ، أَوْ ذَلِيلَةٌ مُحْتَاجَةٌ إِلَى عَطَائِي ، وَقِيلَ : أَيْ
هَارِبَةٌ مِنْ قَوْمِهَا . قَالَ
التُّورِبِشْتِيُّ : قَدْ رُوِيَ بِالْبَاءِ ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ
. وَالصَّوَابُ : رَاغِمَةٌ بِالْمِيمِ بَدَلُ الْبَاءِ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ
فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ : قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَوْ
رَاهِبَةٌ ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى
: رَاغِبَةٌ بِلَا شَكٍّ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ . قَالَ الْقَاضِي
عِيَاضٌ : الصَّحِيحُ
رَاغِبَةٌ بِلَا شَكٍّ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ
: رَاغِبَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ ، وَهِيَ رَاغِبَةٌ
مُشْرِكَةٌ . قِيلَ : مَعْنَاهُ
رَاغِبَةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ أَوْ كَارِهَةٌ لَهُ ، وَقِيلَ
: طَامِعَةٌ فِيمَا أُعْطِيهَا حَرِيصَةٌ عَلَيْهِ ،
وَمَعْنَى رَاغِمَةٍ بِالْمِيمِ : كَارِهَةٌ لِلْإِسْلَامِ سَاخِطَةٌ لَهُ . قَالَ
الطِّيبِيُّ : تَحْرِيرُهُ
أَنَّ قَوْلَهُ : رَاغِبَةٌ إِذَا أُطْلِقَتْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ يُقَدَّرُ
رَاغِبَةً عَنِ الْإِسْلَامِ لَا غَيْرُ ، وَإِذَا قُرِنَتْ بِقَوْلِهِ : وَهِيَ
مُشْرِكَةٌ أَوْ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ يُقَدَّرُ رَاغِبَةً فِي صِلَتِي لِيُطَابِقَ
مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَهِيَ رَاغِمَةٌ . ( أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ
صِلِيهَا ) أَيْ : وَأَعْطِيهَا
مَا يُرْضِيهَا قَالَ النَّوَوِيُّ : وَفِيهِ جَوَازُ صِلَةِ الْقَرِيبِ
الْمُشْرِكِ ( مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) " .
(3)
عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى
مَكَّةَ كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ،
وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ
الْحِمَارِ إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: أَلَسْتَ ابْنَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ؟
قَالَ: بَلَى، فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ، وَقَالَ: ارْكَبْ هَذَا وَالْعِمَامَةَ،
قَالَ: اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: غَفَرَ اللَّهُ
لَكَ أَعْطَيْتَ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ حِمَارًا، كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْهِ
وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ، فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ مِنْ أَبَرِّ
الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ ، وَإِنَّ
أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ" ( ).
(4)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ
فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ , أَنَّى لِي هَذِهِ، فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ " ( ).
قَوْلُ مُحَمَّدٍ بِن عَلِيٍّ بِن سُلْطَان القَارِيِّ فِي
شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ يَرْفَعُ الدَّرَجَةَ ) أَيِ : الدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ بِلَا عَمَلٍ (
لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ ) أَيِ : الْمُسْلِمِ ( فِي الْجَنَّةِ ) : مُتَعَلِّقٌ بِيَرْفَعُ
( فَيَقُولُ ) أَيِ : الْعَبْدُ ( يَا رَبِّ أَنَّى لِي ) أَيْ : كَيْفَ حَصَلَ ، أَوْ مِنْ أَيْنَ حَصَلَ
لِي ( هَذِهِ ؟ ) أَيِ الدَّرَجَةُ ( فَيَقُولُ : بِاسْتِغْفَارِ ) : حَصَلَ
بِاسْتِغْفَارِ ( وَلَدِكَ
لَكَ ) : الْوَلَدُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَالْمُرَادُ بِهِ
الْمُؤْمِنُ . ( رَوَاهُ أَحْمَدُ ) " .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنِّي جِئْتُ أُرِيدُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ
وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَقَدْ أَتَيْتُ وَإِنَّ وَالِدَيَّ لَيَبْكِيَانِ،
قَالَ: " فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا " ( ).
(5)
وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ ، فَقَالَ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ
مَوْتِهِمَا ؟ قَالَ : " نَعَمْ
، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا ، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا
مِنْ بَعْدِهِمَا ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا ،
وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا " . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَابْنُ مَاجَهْ . " ( ).
قَوْلُ مُحَمَّدٍ بِن عَلِيٍّ بِن سُلْطَان القَارِيِّ فِي
شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
" ( وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ ) : بِالتَّصْغِيرِ (
السَّاعِدِيِّ ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ : أَنْصَارِيٌّ ، شَهِدَ الْمَشَاهِدَ
كُلَّهَا ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ ، وَلَهُ ثَمَانٍ
وَسَبْعُونَ سَنَةً بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ
الْبَدْرِيِّينَ . ( قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ
جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ) بِكَسْرِ اللَّامِ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ
لَيْسَ فِي الْعَرَبِ سَلِمَةُ غَيْرَهُمْ ( قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ بَقِيَ
مِنْ بِرِّ أَبَوِيَّ ) أَيْ : وَالِدَيَّ وَفِيهِ تَغْلِيبٌ
( شَيْءٌ ) أَيْ : مِنَ الْبِرِّ ( أَبَرُّهُمَا ) بِفَتْحِ
الْمُوَحَّدَةِ أَيْ : أَصِلُهُمَا وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمَا ( بِهِ ) أَيْ :
بِذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الْبِرِّ الْبَاقِي ( بَعْدَ مَوْتِهِمَا ؟ قَالَ :
نَعَمِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا ) ، أَيِ : الدُّعَاءُ وَمِنْهُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ
( وَالِاسْتِغْفَارُ ) أَيْ : طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ ( لَهُمَا ) وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ (
وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا ) أَيْ : إِمْضَاءُ
وَصِيَّتِهِمَا ( مِنْ بَعْدِهِمَا ) ، أَيْ : مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا وَلَوْ
مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمَا ( وَصِلَةُ الرَّحِمِ ) أَيْ
: وَإِحْسَانُ الْأَقَارِبِ ( الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا
بِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا ) أَيْ : تَتَعَلَّقُ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ ، فَالْمَوْصُولُ
صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِلرَّحِمِ . قَالَ الطِّيبِيُّ
: الْمَوْصُولُ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ ، بَلْ
لِلْمُضَافِ أَيِ : الصِّلَةُ الْمَوْصُوفَةُ ، فَإِنَّهَا خَالِصَةٌ بِحَقِّهِمَا
وَأَضَافَهُمَا لَا لِأَمْرٍ آخَرَ وَنَحْوِهِ . قُلْتُ : يَرْجِعُ الْمَعْنَى
إِلَى الْأَوَّلِ فَتَدَبَّرْ وَتَأَمَّلْ ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ خُلُوصِ
النِّيَّةِ وَتَصْحِيحِ الطَّوِيَّةِ فَمُعْتَبَرٌ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ غَيْرُ
مُنْحَصِرٍ فِي جُزْئِيَّةٍ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُضَافٌ لِمَا نَقَلَهُ عَنِ
الْإِمَامِ فِي الْإِحْيَاءِ ، وَأَنَّ الْعِبَادَ أُمِرُوا بِأَنْ لَا يَعْبُدُوا
إِلَّا اللَّهَ ، وَلَا يُرِيدُوا بِطَاعَتِهِمْ غَيْرَهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ
يَخْدِمُ أَبَوَيْهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْدِمَ لِطَلَبِ مَنْزِلَةٍ عِنْدَهُمَا
إِلَّا مِنْ حَيْثُ أَنَّ رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ
لَهُ أَنْ يُرَائِيَ بِطَاعَتِهِ لِيَنَالَ بِهَا مَنْزِلَةً عِنْدَ الْوَالِدَيْنِ
، فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ فِي الْحَالِ ، وَسَيَكْشِفُ اللَّهُ عَنْ رِيَائِهِ
فَتَسْقُطُ مَنْزِلَتُهُ مِنْ قَلْبِهِمَا أَيْضًا
. اهـ . فَنَقْلُهُ كَلَامَ الْحُجَّةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا
عَلَيْنَا . ( رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ ، وَابْنُ مَاجَهْ ) " .
أَقْوَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي بِرِّ الوَالِدَينِ
" سئل الْحَسَن البصري: ما بر الوالدين؟
فقَالَ:" أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية، قِيلَ:
فما العقوق؟ قَالَ: أن تهجرهما وتحرمهما، ثُمَّ قَالَ: أما علمت أن نظرك فِي وجوه
والديك عبادة، فكيف بالبر بهما " ( ).
قَالَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ ": بِرُّ الْوَالِدَيْنِ كَفَّارَةُ الْكَبَائِرِ. وَكَذَا ذَكَرَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَكْحُولٍ. قُلْت وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ
وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ " أَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ إنِّي أَذْنَبْت
ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ هَلْ لَك مِنْ أُمٍّ "
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ " هَلْ لَك وَالِدَانِ؟ قَالَ
لَا. قَالَ فَهَلْ لَك مِنْ خَالَةٍ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَبِرَّهَا " ( ).
بِرُّ الوَالِدَينِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ
رَسُولُ اللهِ يَبِرُّ أَمَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ،
فَقَالَ: " اسْتَأْذَنْتُ
رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي
أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ
الْمَوْتَ " ( ).
أَبُو هُرَيرَة يَبِرُّ أُمَّهُ
عَنْ أَبِي كَثِيرٍ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: " كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى
الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَتَأْبَى عَلَيَّ،
فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللَّهَ
أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَخَرَجْتُ
مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ، فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ، فَسَمِعَتْ
أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ
الْمَاءِ، قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا،
فَفَتَحَتِ الْبَابَ، ثُمَّ قَالَتْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ:
فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ
وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْشِرْ
قَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَحَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: خَيْرًا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ
وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا يَعْنِي أَبَا
هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ
الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا
أَحَبَّنِي " ( ).
الوَالِدُ ( أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ) إِنْ مَاتَا
عَلَى الكُفْرِ
(أ) لَنْ يُغْفَر لِلْكُفَّارِ فَهُمْ أَصْحَابِ النَّارِ
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ
هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) ﴾
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
(34) ﴾
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ
كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ
افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) ﴾
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ
كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ
يُنْظَرُونَ (162) ﴾
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ
كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) ﴾
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) ﴾
(ب) لَا يُسْتَغْفَرُ لِلْكَافِرِ إِنْ مَاتَ عَلَى
كُفْرِهِ
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى
مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) ﴾
قَالَ مُحَمَّدُ بِن رَشِيدِ رِضَا فِي تَفْسِيرِهَا
"تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّمَانِينَ مِنْ
هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ لِلْمُنَافِقِينَ
لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَخْ ، فَاسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ
لَهُمْ وَعَدَمُهُ سِيَّانِ . وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ( إِنَّ اللَّهَ
لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) ( 4 : 48 و 116 ) وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ
فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ التَّأَسِّيَ بِإِبْرَاهِيمَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ
قَوْمِهِمُ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ ، وَاسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ
الْأُسْوَةِ اسْتِغْفَارَ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِأَبِيهِ فَقَالَ : ( إِلَّا
قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ
اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) ( 60 : 4 ) وَقَدْ بَيَّنَ هَنَا حُكْمَ الِاسْتِغْفَارِ
لِمَنْ ذَكَرَ وَقَفَّى عَلَيْهِ بِقَاعِدَةِ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ الَّتِي
يُبْنَى عَلَيْهَا الْجَزَاءُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ
:
( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ ) هَذَا نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ
النَّهْيِ الْمُجَرَّدِ ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ فِيهِ يُسَمَّى نَفْيَ الشَّأْنِ ،
وَهُوَ أَبْلَغُ فِي نَفْيِ الشَّيْءِ نَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُعَلَّلٌ
بِالسَّبَبِ الْمُقْتَضِي لَهُ . وَالْمَعْنَى
: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ وَلَا مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ
مِنْ حَيْثُ هُوَ نَبِيٌّ - وَلَا مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا مِمَّا
يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ مَنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ - أَنْ يَدْعُوا
اللَّهَ طَالِبِينَ مِنْهُ الْمَغْفِرَةَ لِلْمُشْرِكِينَ ( وَلَوْ كَانُوا أُولِي
قُرْبَى ) ، لَهُمْ فِي الْأَصْلِ حَقُّ الْبِرِّ وَصِلَةُ الرَّحِمِ . وَكَانَتْ
عَاطِفَةُ الْقَرَابَةِ تَقْتَضِي الْغَيْرَةَ عَلَيْهِمْ وَحُبَّ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ
( ( وَلَوْ ) ) هَذِهِ تُفِيدُ الْغَايَةَ لِمَعْطُوفٍ عَلَيْهِ يُحْذَفُ حَذْفًا
مُطَّرَدًا لِلْعِلْمِ بِهِ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا تُبِيحُهُ
النُّبُوَّةُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَا مِمَّا يَصِحُّ وُقُوعُهُ مِنْ أَهْلِهِمَا
- الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ ، وَحَتَّى لَوْ
كَانُوا أُولِي قُرْبَى ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ فَعَدَمُ جَوَازِهِ
أَوْلَى . ثُمَّ قَيَّدَ الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ظَهَرَ
لَهُمْ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الْخَالِدِينَ فِيهَا بِأَنْ مَاتُوا
عَلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَلَوْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ كَاسْتِصْحَابِ حَالَةِ
الْكُفْرِ إِلَى الْمَوْتِ ، أَوْ نَزَلَ وَحْيٌ يُسَجِّلُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ
كَإِخْبَارِهِ تَعَالَى عَنْ أُنَاسٍ مِنَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ
أَصْحَابِ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا ، أَوْ أَنَّهُمْ طُبِعَ قُلُوبُهُمْ
وَخُتِمَ عَلَيْهَا . وَقَوْلُهُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- : ( وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ ) ( 36 : 10 ) وَمِثْلُهُ
فِي الْمُنَافِقِينَ : ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ ) ( 63 : 6 )
إِلَخْ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ
هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ ، إِذْ دَعَاهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَمَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ إِلَى قَوْلِ : ( لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ ) فَامْتَنَعَ
وَأَبُو طَالِبٍ مَاتَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ ، فَهَلْ نَزَلَتِ الْآيَةُ
عَقِبَ مَوْتِهِ ثُمَّ أُلْحِقَتْ بِهَذِهِ السُّورَةِ الْمَدَنِيَّةِ
لِأَحْكَامِهَا ، أَمْ نَزَلَتْ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ بَرَاءَةَ مُبَيِّنَةً
لِحُكْمِ اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ ؟
وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ زَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَبْرَ أُمِّهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَالْآيَةُ
نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ الدُّعَاءِ لِمَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ بِالْمَغْفِرَةِ
وَالرَّحْمَةِ وَكَذَا وَصْفُهُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ
:
الْمَغْفُورُ لَهُ الْمَرْحُومُ فُلَانٌ ، كَمَا يَفْعَلُهُ
بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ الْآنَ ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِهِمْ
بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ ، وَتَقَيُّدِهِمْ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ ، وَمِنْهُمْ
بَعْضُ الْمُعَمِّمِينَ وَالْحَامِلِينَ لِدَرَجَةِ الْعَالَمِيَّةِ مِنَ الْأَزْهَرِ .
أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : لَمَّا
حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي
أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ : ( ( أَيْ عَمِّ ! قُلْ : لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ) ) فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ : أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَأَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ يُعَاوِدَانِهِ بِتِلْكَ
الْمَقَالَةِ ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ : إِنَّهُ عَلَى
مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ . وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( ( وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ
أُنْهَ عَنْكَ ) ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
) وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ( 28 : 56 ) .
هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ
الْأَخِيرَةِ مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ وَأَخْرَجَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ بَرَاءَةَ
وَفِي الْجَنَائِزِ أَيْضًا .
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ : وَوَقَعَ فِي
رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ قَالَ : يَا ابْنَ أَخِي مِلَّةَ الْأَشْيَاخِ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ
أَبِي حَازِمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالطَّبَرِيِّ قَالَ : لَوْلَا
أَنْ تُعَيِّرَنِي بِهَا قُرَيْشٌ يَقُولُونَ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا
جَزَعُ الْمَوْتِ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ
. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ
شِبْلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- : ( ( اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَلَا أَزَالُ
أَسْتَغْفِرُ لِأَبِي طَالِبٍ حَتَّى يَنْهَانِي عَنْهُ رَبِّي ) ) فَقَالَ
أَصْحَابُهُ : لِنَسْتَغْفِرَنَّ لِآبَائِنَا كَمَا اسْتَغْفَرَ نَبِيُّنَا
لِعَمِّهِ ، فَنَزَلَتْ .
( قَالَ ) وَهَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ وَفَاةَ أَبِي
طَالِبٍ كَانَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى قَبْرَ أُمِّهِ لَمَّا
اعْتَمَرَ فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ - وَالْأَصْلُ عَدَمُ
تَكْرَارِ النُّزُولِ ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ
طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ هَانِئٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ :
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا إِلَى
الْمَقَابِرِ فَأَتْبَعْنَاهُ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا
فَنَاجَاهُ طَوِيلًا ثُمَّ بَكَى فَبَكَيْنَا فَقَالَ : ( ( إِنَّ الْقَبْرَ
الَّذِي جَلَسْتُ عِنْدَهُ قَبْرُ أُمِّي وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي
الدُّعَاءِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَأَنْزَلَ عَلَيَّ : ( مَا كَانَ
لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) ) )
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَهُ .
وَفِيهِ : نَزَلَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَهُ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ رَاكِبٍ وَلَمْ
يَذْكُرْ نُزُولَ الْآيَةِ . وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ : لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى رَسْمَ
قَبْرٍ ، وَمِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ : لَمَّا قَدِمَ
مَكَّةَ وَقَفَ عَلَى قَبْرِ أُمِّهِ حَتَّى سَخِنَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ رَجَاءَ
أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَيَسْتَغْفِرَ لَهَا ، فَنَزَلَتْ . وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهِ : لَمَّا هَبَطَ مِنْ ثَنِيَّةِ عَسْفَانَ
. وَفِيهِ نُزُولُ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ . فَهَذِهِ طُرُقٌ يُعَضِّدُ بَعْضُهَا
بَعْضًا ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى تَأْخِيرِ نُزُولِ الْآيَةِ عَنْ وَفَاةِ
أَبِي طَالِبٍ وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ
بَعْدَ أَنْ شُجَّ وَجْهُهُ : ( ( رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ ) ) لَكِنْ
يُحْتَمَلُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِغْفَارُ خَاصًّا بِالْأَحْيَاءِ
وَلَيْسَ الْبَحْثُ فِيهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ تَأَخَّرَ
وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا تَقَدَّمَ ، وَيَكُونُ لِنُزُولِهَا سَبَبَانِ مُتَقَدِّمٌ
وَهُوَ أَمْرُ أَبِي طَالِبٍ وَمُتَأَخِّرٌ وَهُوَ أَمْرُ آمِنَةَ ، وَيُؤَيِّدُ
تَأْخِيرَ النُّزُولِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةَ مِنِ اسْتِغْفَارِهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُنَافِقِينَ حَتَّى نَزَلَ النَّهْيُ عَنْ
ذَلِكَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ النُّزُولِ وَإِنْ تَقَدَّمَ
السَّبَبُ ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ ،
وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ : ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ )
لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَفِي
غَيْرِهِ ، وَالثَّانِيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَحْدَهُ ، وَيُؤَيِّدُ تَعَدُّدَ
السَّبَبِ مَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ
عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : سَمِعْتُ
رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِوَالِدَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ
لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ) الْآيَةَ .
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ
: أَلَا نَسْتَغْفِرُ لِآبَائِنَا كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ ؟
فَنَزَلَتْ . وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ
: ذَكَرْنَا لَهُ أَنَّ رِجَالًا . . . . . فَذَكَرَ نَحْوَهُ
. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ إِذَا خَتَمَ عُمُرَهُ
بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ، وَأُجْرِيَتْ
عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ قَارَنَ نُطْقَ لِسَانِهِ عَقْدُ
قَلْبِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ
وَصَلَ إِلَى حَدِّ انْقِطَاعِ الْأَمَلِ مِنَ الْحَيَاةِ وَعَجَزَ عَنْ فَهْمِ
الْخِطَابِ وَرَدِّ الْجَوَابِ ، وَهُوَ وَقْتُ الْمُعَايَنَةِ ، وَإِلَيْهِ
الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) ( 4 : 18
) وَاللَّهُ أَعْلَمُ . انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ وَقَدْ
تَعَدَّدَتِ الرِّوَايَاتُ فِي اسْتِغْفَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لِآبَائِهِمْ
وَأُولِي قُرْبَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَأَسِّيًا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حِينَ اسْتَغْفَرَ لِعَمِّهِ حَتَّى نَزَلَ النَّهْيُ فَكَفُّوا " ( ) .
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ ( )
قَالَ مُحَمَّدُ بِن جَرِيرٍ الطَّبَرِي فِي تَفْسِيرِهَا
" قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : يَقُولُ - تَعَالَى
ذِكْرُهُ - لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ادْعُ
اللَّهَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ - الَّذِينَ وَصَفْتُ صِفَاتِهِمْ فِي هَذِهِ
الْآيَاتِ - بِالْمَغْفِرَةِ ، أَوْ لَا تَدْعُ لَهُمْ بِهَا
.
وَهَذَا كَلَامٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ ، وَتَأْوِيلُهُ
الْخَبَرُ ، وَمَعْنَاهُ : إِنِ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ ، أَوْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
.
وَقَوْلُهُ : ( إِنْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) يَقُولُ
: إِنْ تَسْأَلْ لَهُمْ أَنْ تُسْتَرَ عَلَيْهِمْ ذُنُوبُهُمْ بِالْعَفْوِ مِنْهُ
لَهُمْ عَنْهَا ، وَتَرْكِ فَضِيحَتِهِمْ بِهَا ، فَلَنْ يَسْتُرَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ ، وَلَنْ يَعْفُوَ لَهُمْ عَنْهَا ، وَلَكِنَّهُ يَفْضَحُهُمْ بِهَا
عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) يَقُولُ
- جَلَّ ثَنَاؤُهُ - : هَذَا الْفِعْلُ مِنَ اللَّهِ بِهِمْ
- وَهُوَ تَرْكُ عَفْوِهِ لَهُمْ عَنْ ذُنُوبِهِمْ - مِنْ
أَجْلِ أَنَّهُمْ جَحَدُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ وَرِسَالَةَ رَسُولِهِ ( وَاللَّهُ
لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) يَقُولُ : وَاللَّهُ لَا يُوَفِّقُ لِلْإِيمَانِ
بِهِ وَبِرَسُولِهِ مَنْ آثَرَ الْكُفْرَ بِهِ وَالْخُرُوجَ عَنْ طَاعَتِهِ عَلَى
الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ .
وَيُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ : " لَأَزِيدَنَّ
فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ عَلَى سَبْعِينَ مَرَّةً " رَجَاءً مِنْهُ أَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ، فَنَزَلَتْ : ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ
أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) [ سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ
: 6 ] .
17023 - حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ
ابْنَ سَلُولَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : لَوْلَا أَنَّكُمْ تُنْفِقُونَ عَلَى
مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ . وَهُوَ الْقَائِلُ : (
لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ
) [ سُورَةُ
الْمُنَافِقُونَ : 8 ] فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ ) قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ . فَأَنْزَلَ
اللَّهُ : ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ ) فَأَبَى اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ .
17024 - حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَ
: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ شِبَاكٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ :
دَعَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى
جِنَازَةِ أَبِيهِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : حُبَابُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ . فَقَالَ
لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : بَلْ أَنْتَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ إِنَّ " الْحُبَابَ
" هُوَ الشَّيْطَانُ .
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
- : إِنَّهُ قَدْ قِيلَ لِي : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) فَأَنَا أَسْتَغْفِرُ لَهُمْ سَبْعِينَ
وَسَبْعِينَ وَسَبْعِينَ ، وَأَلْبَسَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَمِيصَهُ وَهُوَ عَرِقٌ .
17025 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ :
حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ : ( إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) فَقَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : سَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ
اسْتِغْفَارَةً ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا
الْمُنَافِقُونَ : ( لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )
عَزْمًا .
17026 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا
أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ
مِثْلَهُ .
17027 - . . . . . . قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ :
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ
مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ .
17028 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ : حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ
نَحْوَهُ .
17029 - . . . . . . قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ :
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ : أَخْبَرَنَا
مُغِيرَةُ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ : لَمَّا ثَقُلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ
انْطَلَقَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَقَالَ لَهُ : إِنَّ أَبِي قَدِ احْتُضِرَ ، فَأُحِبُّ أَنْ تَشْهَدَهُ
وَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ . فَقَالَ النَّبِيُّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا اسْمُكَ ؟ قَالَ
: الْحُبَابُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ . قَالَ : بَلْ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ إِنَّ " الْحُبَابَ " اسْمُ شَيْطَانٍ .
قَالَ : فَانْطَلَقَ
مَعَهُ حَتَّى شَهِدَهُ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ وَهُوَ عَرِقٌ ، وَصَلَّى عَلَيْهِ
، فَقِيلَ لَهُ : أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَهُوَ مُنَافِقٌ ؟ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ
قَالَ : ( إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَهُمْ ) وَلَأَسْتَغْفِرَنَّ لَهُ سَبْعِينَ وَسَبْعِينَ . قَالَ هُشَيْمٌ :
وَأَشُكُّ فِي الثَّالِثَةِ .
17030 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ :
حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : حَدَّثَنِي
عَمِّي قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ :
( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
) إِلَى قَوْلِهِ : ( الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : أَسْمَعُ رَبِّي قَدْ رَخَّصَ لِي فِيهِمْ
، فَوَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً ، فَلَعَلَّ
اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ . فَقَالَ اللَّهُ - مِنْ شِدَّةِ غَضَبِهِ
عَلَيْهِمْ - : ( سَوَاءٌ
عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) [ سُورَةُ
الْمُنَافِقُونَ : 6 ] .
17031 - حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ
قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ
لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ : قَدْ خَيَّرَنِي رَبِّي ، فَلَأَزِيدَنَّهُمْ
عَلَى سَبْعِينَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ
) الْآيَةَ .
17032 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى
قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ :
لَمَّا نَزَلَتْ : ( إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ ) فَقَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَأَزِيدَنَّ عَلَى سَبْعِينَ
. فَقَالَ اللَّهُ : ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
) " .
يَقُولُ الحَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــقُّ تَبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــارَكَ
وَ تَعَــــــــــــــــــــــــــالَى فِي مُحْكَــــــــــــــــــــــــــــــمِ
آَيَاتِهِ
بِسْـــــــــــــــــــــــــــمِ اللهِ
الرَّحْمــــــــــــــــــــنِ الرَّحِيــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
﴿ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ
أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ ( )
قَالَ مُحَمَّدٌ بِن أَحْمَدٍ الأَنْصَارِيِّ القُرْطُبِيِّ
فِي تَفْسِيرِهَا
" قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ
وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ
لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِصِفَتِهِمْ مَشَى إِلَيْهِمْ
عَشَائِرُهُمْ وَقَالُوا : افْتَضَحْتُمْ بِالنِّفَاقِ فَتُوبُوا إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ مِنَ النِّفَاقِ ، وَاطْلُبُوا أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكُمْ . فَلَوَّوْا
رُءُوسَهُمْ ; أَيْ حَرَّكُوهَا اسْتِهْزَاءً وَإِبَاءً ; قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
. وَعَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مَوْقِفٌ فِي كُلِّ
سَبَبٍ يَحُضُّ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ ; فَقِيلَ لَهُ : وَمَا
يَنْفَعُكَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضْبَانٌ
فَأْتِهِ يَسْتَغْفِرْ لَكَ ; فَأَبَى وَقَالَ : لَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ . وَسَبَبُ
نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
غَزَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ " الْمُرَيْسِيعُ "
مِنْ نَاحِيَةِ " قُدَيْدٍ " إِلَى السَّاحِلِ ، فَازْدَحَمَ أَجِيرٌ
لِعُمَرَ يُقَالُ لَهُ : " جَهْجَاهُ " مَعَ حَلِيفٍ لِعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أُبَيٍّ يُقَالُ لَهُ : " سِنَانٌ " عَلَى مَاءٍ " بِالْمُشَلَّلِ " ;
فَصَرَخَ جَهْجَاهُ بِالْمُهَاجِرِينَ ، وَصَرَخَ سِنَانٌ بِالْأَنْصَارِ ;
فَلَطَمَ جَهْجَاهُ سِنَانًا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ : أَوَقَدْ
فَعَلُوهَا ! وَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إِلَّا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ
: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى
الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ - يَعْنِي أُبَيًّا - الْأَذَلَّ ; يَعْنِي
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ قَالَ لِقَوْمِهِ : كُفُّوا
طَعَامَكُمْ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ ، وَلَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَهُ حَتَّى
يَنْفَضُّوا وَيَتْرُكُوهُ . فَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ - وَهُوَ مِنْ رَهْطِ
عَبْدِ اللَّهِ - أَنْتَ وَاللَّهِ الذَّلِيلُ الْمُنْتَقَصُ فِي قَوْمِكَ ;
وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِزٍّ مِنَ الرَّحْمَنِ
وَمَوَدَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَاللَّهِ لَا أُحِبُّكَ بَعْدَ كَلَامِكَ
هَذَا أَبَدًا . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ
: اسْكُتْ إِنَّمَا كُنْتُ أَلْعَبُ . فَأَخْبَرَ زَيْدٌ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ ، فَأَقْسَمَ بِاللَّهِ
مَا فَعَلَ وَلَا قَالَ ; فَعَذَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ . قَالَ
زَيْدٌ : فَوَجَدْتُ فِي نَفْسِي وَلَامَنِي النَّاسُ ; فَنَزَلَتْ سُورَةُ
الْمُنَافِقِينَ فِي تَصْدِيقِ زَيْدٍ وَتَكْذِيبِ عَبْدِ اللَّهِ . فَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ : قَدْ نَزَلَتْ
فِيكَ آيَاتٌ شَدِيدَةٌ فَاذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لَكَ ; فَأَلْوَى بِرَأْسِهِ ، فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
وَالتِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ . وَقِيلَ :
" يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ " يَسْتَتِبْكُمْ
مِنَ النِّفَاقِ ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ اسْتِغْفَارٌ
.
وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أَيْ
يُعْرِضُونَ عَنِ الرَّسُولِ مُتَكَبِّرِينَ عَنِ الْإِيمَانِ . وَقَرَأَ نَافِعٌ
" لَوَوْا " بِالتَّخْفِيفِ
. وَشَدَّدَ الْبَاقُونَ ; وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ : هُوَ فِعْلٌ
لِجَمَاعَةٍ . النَّحَّاسُ : وَغَلِطَ فِي هَذَا
; لِأَنَّهُ نَزَلَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ لَمَّا
قِيلَ لَهُ : تَعَالَ
يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّكَ
رَأْسَهُ اسْتِهْزَاءً . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ أَخْبَرَ عَنْهُ بِفِعْلِ
الْجَمَاعَةِ ؟ قِيلَ لَهُ : الْعَرَبُ تَفْعَلُ هَذَا إِذَا كَنَّتْ عَنِ
الْإِنْسَانِ . أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِحَسَّانَ
:
ظَنَنْتُمْ بِأَنْ يَخْفَى الَّذِي قَدْ صَنَعْتُمُ
وَفِينَا رَسُولٌ عِنْدَهُ الْوَحْيُ وَاضِعُهْ
وَإِنَّمَا خَاطَبَ حَسَّانُ ابْنَ الْأُبَيْرِقِ فِي
شَيْءٍ سَرَقَهُ بِمَكَّةَ . وَقِصَّتُهُ
مَشْهُورَةٌ . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُ وَعَمَّنْ فَعَلَ فِعْلَهُ .
وَقِيلَ : قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ لَمَّا لَوَّى رَأْسَهُ
: أَمَرْتُمُونِي أَنْ أُومِنَ فَقَدْ آمَنْتُ ، وَأَنْ
أُعْطِيَ زَكَاةَ مَالِي فَقَدْ أَعْطَيْتُ ; فَمَا بَقِيَ إِلَّا أَنْ أَسْجُدَ
لِمُحَمَّدٍ " .
(ت) لَمْ يُحَلُّ لِرَسُولِ اللهِ فِي الاسْتِغْفَارِ
لِوَالِدَتِهِ وَ قَدْ مَاتَتْ عَلَى الكُفْرِ
ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ
أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ
قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي " ( )
قَالَ يَحْيَى بِن شَرَفٍ أَبِي زَكَرِيَّا النَّوَوِيِّ
فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ
قال الإمام النووي " جَوَازُ زِيَارَةِ الْمُشْرِكِينَ
فِي الْحَيَاةِ، وَقُبُورِهِمْ بَعْدَ الْوَفَاةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَتْ
زِيَارَتُهُمْ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَفِي الْحَيَاةِ أَوْلَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَفِيهِ: النَّهْيُ عَنِ
الِاسْتِغْفَارِ لِلْكُفَّارِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: سَبَبُ
زِيَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَهَا أَنَّهُ قَصَدَ قُوَّةَ
الْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرَى بِمُشَاهَدَةِ قَبْرِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: ( فَزُورُوا الْقُبُورَ
فَإِنَّهَا تُذَكِّرِكُمُ الْمَوْتَ ) " ( ).
أَحَادِيثٌ مَكْذُوبَةٌ فِي بِرِّ الوَالِدَينِ ( )
(1)
عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا مِنْ رَجُلٍ
بَارٍّ يَنْظُرُ إِلَى وَالِدَيْهِ أَوْ وَالِدَتِهِ نَظْرَةَ رَحْمَةٍ ، إِلا
كَتَبَ اللَّهُ تِلْكَ النَّظْرَةَ حِجَّةً مُتَقَبَّلَةً مَبْرُورَةً " ،
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنْ نَظَرَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ؟
قَالَ : " اللَّهُ
أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ " ..
رواه أبو بكر الإسماعيلي في "معجم أسامي الشيوخ"
(8) – ومن طريقه البيهقي في "شعب الإيمان" (10/265)
.
قال الشيخ الألباني رحمه الله
:
"لا يصح ؛ لأن فيه بعض الضعفاء" انتهى من
"السلسلة الضعيفة" (2716) .
ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" (10/266) .
قال الشيخ الألباني رحمه الله
:
"موضوع ... نهشل بن سعيد كذاب معروف" انتهى
من "السلسلة الضعيفة" (6273) .
(2)
عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا بَرَّ أَبَاهُ مَنْ شَدَّ إِلَيْهِ
الطَّرْفَ بِالْغَضَبِ "
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (9/149) وسنده
ضعيف جداً ، فيه : صالح بن موسى متروك الحديث باتفاق المحدثين .
انظر : "تهذيب التهذيب" (4/405) .
قال الهيثمي رحمه الله
:
"فيه صالح بن موسى وهو متروك" انتهى من
"مجمع الزوائد" (8/147) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله
:
"ضعيف جدا" انتهى من "ضعيف
الجامع" (11820) .
(3)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ
: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ
أَصْبَحَ مُطِيعًا لِلَّهِ فِي وَالِدَيْهِ أَصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ
مِنَ الْجَنَّةِ ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَوَاحِدًا ، وَمَنْ أَمْسَى عَاصِيًا لِلَّهِ
فِي وَالِدَيْهِ أَصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ مِنَ النَّارِ ، إِنْ كَانَ
وَاحِدًا فَوَاحِدًا " قَالَ رَجُلٌ : وَإِنْ ظَلَمَاهُ ؟ قَالَ : "
وَإِنْ ظَلَمَاهُ ، وَإِنْ ظَلَمَاهُ ، وَإِنْ ظَلَمَاهُ
" .
جاء هذا الحديث من عدة طرق عن ابن عباس : كلها ضعيفة .
فمنها : ما رواه البيهقي في "شعب الإيمان"
(10/306) .
قال العراقي رحمه الله
:
"لا يصح" انتهى من "تخريج
الإحياء" (2/216) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله
:
"هذا إسناد واهٍ ، رجاله ثقات ؛ غير السرخسي هذا
، وهو من شيوخ ابن عدي وقال في ترجمته (4/268) : حدث بأحاديث لم يتابعوه عليها ،
وكان متهماً في روايته عن قوم لم
يلحقهم مثل علي بن حُجر وغيره" انتهى من "السلسلة
الضعيفة" (6271) .
ورواه البخاري في "الأدب المفرد" (16) وفي سنده :
سعيد القيسي ، لم يذكره أحد بجرح ولا تعديل . ولذلك ضعف الحديث الشيخ الألباني في
"ضعيف الأدب المفرد".
(4)
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : " يُقَالُ لِلْعَاقِّ : اعْمَلْ مَا شِئْتَ مِنَ الطَّاعَةِ
فَإِنِّي لا أَغْفِرُ لَكَ ، وَيُقَالُ لِلْبَارِّ : اعْمَلْ مَا شِئْتَ ،
فَإِنِّي أَغْفِرُ لَكَ " .
رواه الديلمي في "مسند الفردوس" (8739) ، ورواه
أبو نعيم في "حلية الأولياء" (10/215) وسنده ضعيف
.
فيه عائذ بن نسير ضعفه ابن معين كما في "ميزان
الاعتدال" (4/23) .
الفِهْــــــــــــــــــــــــــــــــرِسُ
مُقَــــــــــــــــــــــــدِّمَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٌ
2
تَعْـــــــــــــــــــرِيفُ البِرِّ لُغَةً وَ شَـــــــــــــــــــــــرْعَـــــــــــــاً
3
تَعْرِيفُ البِرِّ لُغَةً 3
تَعْرِيفُ البِرِّ فِي السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ 3
الوَصِيَّـــــــــــــــــــــــــــــــةُ بِبِرِّ
الوَالِدَينِ فِي كِتَـــــــــــــــــــــــــــــــــــابِ اللهِ 6
الوَصِيَّةُ بِالوَالِدَينِ فِي السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ
المُطَهَرَةِ 46
عَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــاقِبَةُ عُقُوقِ
الوَالِدَينِ كَمَا وَرَدَ بِصَحِيحِ السُنَّـــــــــــــــــــــــةِ 68
أَقْوَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي بِرِّ الوَالِدَينِ 94
بِرُّ الوَالِدَينِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ 95
رَسُولُ اللهِ يَبِرُّ أَمَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا 95
أَبُو هُرَيرَة يَبِرُّ أُمَّهُ 95
الوَالِدُ ( أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ) إِنْ مَاتَا
عَلَى الكُفْرِ 96
(أ) لَنْ يُغْفَر لِلْكُفَّارِ فَهُمْ أَصْحَابِ النَّارِ
96
(ب) لَا يُسْتَغْفَرُ لِلْكَافِرِ إِنْ مَاتَ عَلَى
كُفْرِهِ 98
(ت) لَمْ يُحَلُّ لِرَسُولِ اللهِ فِي الاسْتِغْفَارِ
لِوَالِدَتِهِ وَ قَدْ مَاتَتْ عَلَى الكُفْرِ 107
أَحَادِيثٌ مَكْذُوبَةٌ فِي بِرِّ الوَالِدَينِ () 108
المَرَاجِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعُ
الجامع لأحكام القرآن
محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي أبو عبد الله
تفسير البحر المحيط ...
أبي عبدالله محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي
تفسير القرآن العظيم .....إسماعيل
بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي أبو الفداء عماد الدين
التحرير والتنوير.......................................... محمد الطاهر بن عاشور
تفسير البغوي .......... ...
محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي
مسند أحمد بن حنبل
أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني
شعب الإيمان للبيهقي
..... أحمد بن الحسين بن علي بن موسى
الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي
سنن الترمذي محمد بن عيسى بن سَوْرة
صحيح ابن حبان . محمد
بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي ، أبو حاتم ، الدارمي ،
البُستي
المستدرك على الصحيحين ......................................................................
أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري
نيل الأوطار................................................................................................
....محمد بن علي بن محمد الشوكاني
مسند البزار........................................................
بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق بن خلاد بن عبيد الله العتكي المعروف بالبزار
المعجم الأوسط ..............................................................................
سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي
مصنف عبد الرزاق ..........................................................................................
أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني
الأدب المفرد ................................................................................................
محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي
تعظيم قدر الصلاة ........................................................................................................
محمد بن نصر المروزي
الحلية ......................................................................................................
أحمد بن عبد الله الأصفهاني أبو نعيم
شرح النووي على مسلم ..............................................................................
أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي
صحيح البخاري ..............................................................................................
محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي
فتح الباري شرح صحيح البخاري .......................................................
أحمد بن علي بن حجر العسقلاني أبو الفضل شهاب الدين
مسند أبي يعلي
أحمد بن علي بن المثنى أبو يعلى الموصلي
سنن ابن ماجه
الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة الربعي القزويني
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح...........................................
علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي
القاري
شرح السنة
أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري
تفسير المنار..................................... محمد
رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني
تفسير الطبري............................ .......
محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر
الطبري صحيح مسلم .... . أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري
إسم المؤلف : إبتهاج حجازي بدوي سالم غبور
جمهورية مصر العربية
محافظة الدقهلية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق