النُحَاة وحُروفُ الجَرّ صلاح الدين
الزعبلاوي
هذا بحث طريف، حاجة الكتَّاب إليه ماسة ملحة، وهم إذا أصابوا فيه خطأ وظفروا منه بطائل وتعلقوا بسبب وثيق، كان لهم من ذلك مادة قوية في ممارسة الكتابة وإتقانها، وعون وظهير في تصريف المعاني وتوجيه دلالاتها، وسوقها متناسقة متناظمة، دون لبس أو خلل.
وقد جاء للمتقدمين وكثير من المحدثين المتأخرين من هذا النمط ما لا يدافع في حسنه. وإذا هم أخلُّوا بالأصل المعوَّل عليه في استعمال هذه الحروف وعبثوا بضوابطها فجروا على غير العرف العربي في تصريفها أسخفوا بالكتابة وانحطُّوا بها إلى ركاكة العامة، فطال الخطب في ذلك وعسر واستوسع الوهي وكثر، وكان لنا منه أمثلة غثة باردة هي أشبه شيء بالثياب المتداعية كلما حيصت من جانب تهتكت من آخر.
ولابد في بلوغ الغاية في هذا المطلب من أعمال الفكر وتدقيق النظر، وبذل الطوق في تحصيل ما يتصل بجوانب البحث، إذ لا مجال لتحقيق المراد منه بأهون سعي وأقرب طلب. وليس القائل في هذا بعلمه واجتهاده كالقائل بظنه وتقليده.
وقد عقدت في كتابي (مسالك القول في النقد اللغوي) فصلاً سابغاً أفضت فيه بعض الإفاضة في استيفاء طرف من الأصول في هذا الباب، ورأيت أن أتدارك هنا ما جمعت يدي عليه من دقائق، فيما اتفق لي بعد ذلك من تحقيق، واعترض من تمحيص واستقراء. ولو شئت لأوردت منه شيئاً كثيراً تضيق عنه هذه الأوراق.
ضوابط في استعمال الحروف:
قال أبو نزار المعروف بملك النحاة، على ما حكاه الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر (3 / 176)، وأبو نزار هذا الإمام بارع من فقهاء الشافعية، ذو نظم ونثر، له مصنفات في النحو والصرف والقراءات والفقه والأصول وديوان شعر (مولده ببغداد ووفاته في دمشق 568 هـ) قال: (إن الفعل قد يتعدى بعدة من حروف الجر على مقدار المعنى اللغوي المراد من وقوع الفعل، لأن هذه المعاني كامنة في الفعل، وإنما يثيرها ويظهرها حروف الجر) وأردف (وذلك أنك إذا قلت خرجت فأردت أن تبين ابتداء خروجك قلت خرجت من الدار، فإن أردت أن تبين أن خروجك مقارن لاستعلائك قلت خرجت على الدابة، فإن أردت المجاوزة للمكان قلت خرجت عن الدار، وإن أردت الصحبة قلت خرجت بسلاحي فقد وضح بهذا أنه ليس يلزم في كل ألا يتعدى إلا بحرف واحد).
فثبت بهذا أن الفعل يصرّف في وجوه عدة بقدر من حروف الجر أطرد تصريفها فيها. وقد أحاطت كتب اللغة بوجوده تصريف كل حرف فاستعمل فيها، على جهة القياس والاطراد. تقول في تصريف (أجاب): (أجبت في الكتاب، وبالكتاب، وأجبت عنك، وعلى ورقة بيضاء، ولأمر مهم، وعن الأسئلة، من أولها إلى آخرها). كما أحاطت المعجمات بتصريف الأفعال في معانيها فنصَّت على تعديتها بحروف لا يتحكم بها قياس ظاهر، كقولك (أعنتك على عدوك، وتدربت على العمل، وحزنت عليه وغضبت، وحسدتك على كذا، وتوفرت على صاحبي، وارتحت إليه، واعتذرت إليه، وأنست به ورغبت على كذا، وتوفرت على صاحبي، وارتحت إليه، واعتذرت إليه، وأنست به ورغبت فيه) وهكذا. فإذا جمعت القياس في استعمال هذه الحروف على ما نصت عليه كتب اللغة عامة، إلى السماع فيما نصت عليه المعجمات خاصة، أقول إذا ضممت يدك على هذا وذاك، كان لابد من أن تلحظ أن تصريف الفعل بحرف من الحروف إنما يفرده بمعنى لا يؤديه تصريفه حرف آخر، وإن داناه أحياناً، لأن لكل حرف وجهة اختص بها دون سواه.
لكل حرف وجهة خاصة:
يقول أبو البقاء الكفوي في كلياته فيما نحن بسبيله (الفعل المتعدي بالحروف المتعددة لابد من أن يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر، وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف. فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق نحو رغبت فيه وعنه، وعدلت إليه وعنه، وملت إليه وعنه، وسعيت إليه وبه. وإن تقارب معاني الأدوات عسر الفرق، نحو قصدت إليه وله، وهديت إلى كذا ولكذا. فالنحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر. أما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال، وهذه طريقة إمام الصناعة: سيبويه). وأبو البقاء من تعلم تبسطاً في العربية واستبحاراً وإيغالاً في البحث، وسعة إطلاع.
ويفسر ما جاء به أبو البقاء من تمايز وجهات الحروف ولو تدانى بعضها وتعاقب على معنى، قول البيضاوي في تفسير قوله تعالى قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق، قل الله يهدي للحق ـ يونس / 35:) وهدى كما يتعدى بالى لتضمينه معنى الانتهاء، يُعدَّى باللام للدلالة على أن المنتهى غاية الهداية، وأنها لم توجه نحوه على سبيل الاتفاق، ولذا عُدّي بها ما أسند إلى الله). والموضع الذي عُديت فيه الهداية باللام في التنزيل هو ما صح أن يكون المهدي إليه فيه غاية الهداية حقاً، كالإيمان، والتي هي أقوم. ونور الله، والحق، وهكذا..
اللام وإلى:
فالقريب المختار، بل الأصل على هذا، هو التفريق في الأداء بين (اللام وإلى)، وإذا كان بعض الأئمة قد قال بتعاقبهما حيناً، كما فعل الأخفش والزجاج والزمخشري وأبو حيَّان، أو ذهب إلى تعاقبهما قياساً، كما فعل الإمام المالقي فذلك لتقاربهما وتماثلهما في كثير من المواضع. قال المالقي في كتابه (رصف المباني في شرح حروف المعاني). (والموضع الخامس أن تكون اللام بمعنى إلى، وذلك قياس، لأن إلى يقرب معناها من اللام، وكذلك لفظها)، ثم استدرك فقال: (وإن كان بينهما فرق من حيث أن إلى لانتهاء الغاية، واللام عارية عنها) وأردف: (فاستعمال أحدهما في موضع الآخر جائز) وأنت تعلم أن إغناء أحد الحرفين عن الآخر لا يعني أنهما على معنى. وهذا ما حمل أبا البقاء أن يقول: (ثم أن فعل الهداية، متى عُدّي بالى تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية. ومتى عُدّي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب).
القول في تعدية (اعتذر)
الاعتذار كما لا يخفى هو الإتيان بالعذر وطلب قبوله. قال صاحب المفردات: (واعتذرت إليه أتيت بعذر)، والعذر كما جاء في اللسان، (الحجة التي تعتذر بها) أي تحتج. ففي الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني (اعتذر وتعذر إذا احتج)، فإذا أنت أدليت بعذرك إلى صاحبك وطلبت قبول العذر قلت (اعتذرت إلى فلان). ولا تستطيع أن تقول (اعتذرت عن فلان) حتى يكون اعتذارك نيابة عنه. قال المرزوقي في شرح الحماسة (117): (حتى أن بعضهم اعتذر عمن مات على فراشه فقال:
بحمدٍ من سنِانِكَ لا بذمِّ |
|
أبا قُرَّانَ مِتِّ على مِثالِ) |
والمثال: الفراش.
أما إذا أردت الكشف عن سبب اعتذارك وما حملك عليه، فأنت تقول (اعتذرت إليه تقصيري) هذا هو الأصل، وعليه نص المعاجم، ولكن هل تقول (اعتذرت إليه عن تقصيري)؟ أقول ما دمت تقصد بقولك (عن تقصيري) ذكر (سبب الاعتذار وعلَّته) وما حملك عليه، فالكلام سائغ مستقيم. وقد مرّت به المعاجم وجرت عليه ألسنة الأيمة. قال الفيومي في المصباح: (واعتذار إلي: طلب قبول معذرته، واعتذر عن فعله، أظهر عذره). وجاء في الإفصاح، والإفصاح خلاصة المخصص لابن سيده وبعض المظان المعتمدة (العذر ما أدليت به من حجة لإسقاط الملامة.. عذر فلاناً فيما صنع يعذره عذراً ومعذرة، وأعذره: رفع اللوم عنه، واعتذر إليه: طلب قبوله معذرته، واعتذر عن فعله ومنه: أظهر عذره / 255).
أما استعمال الآيمة له فقول ابن جني في الخصائص (1 / 415): (ويؤكده لك أننا نعتذر لهم عن مجيئهم بلفظ المنصوب في التثنية على لفظ المجرور)، أي نعتذر عن فعلهم هذا. وكذلك قول المرزوقي في شرح الحماسة (126): (كالاعتذار عن الأخذ بالفضل عليهم، وترك الصفح عنهم). وما جاء في المثل السائر لنصر الله بن الأثير الجرزي (463): (فإن هذا من أحسن ما يجيء في باب الاعتذار عن الذنب). ما جاء في اللسان (في عسق): (هذا قول ابن سيده، والعجب من كونه لم يعتذر عن سائر كلماته). وقد كرر هذا فقال: (ومن الممكن أن يكون ابن سيده، رحمه الله، ترك الاعتذار عن كلماته.. وعن لفظة: شانني... واعتذر عن لفظة عَسِقني). واتفق في الأشباه والنظائر ـ 4 / 16) من كلام الإمام جمال الدين بن هشام الأنصاري ما عدَّى به (اعتذر) بـ (عن) غير مرة ونحو هذا كثير في كلامهم.
مواضع استعمال (عن):
ولكن لِمَ كان النص في المعاجم على تعدية الفعل بـ (من) غالباً دون (عن)؟ فأنت تقول (قد تسبب هذا عن هذا). قال الفيومي: (وهذا مسبب عن هذا) وقد تكرر ذلك في كلام ابن جني في الخصائص (3 / 160) ، كما تقول (اعتللت بمرضي عن غيابي، أي احتججت بهذه العلة. قال الفيومي (واعتلَّ إذا تمسك بحجة، ذكر بمعناه الفارابي). وقال ابن جني (3 / 206): (واعتل لهذا القول بأن ما قبلها ساكن).
قال الأستاذ محمد علي النجار في كتابه (لغويات / 142)، (لقد استعملت العلة أيضاً في العذر، ويعتذر به الإنسان عن لوم يوجه إليه في التقصير في بعض الأمر). وقال: (ومما يؤنس لما نحن فيه أنه ورد الاعتلال في ذكر العلة، ويقول الفارابي، على ما في المصباح: اعتلّ إذا تمسك بحجته، وقال أبو قيس بن الأسلت:
وتكرمها جاراتها فيزرنها |
|
وتعتلّ عن إتيانهن فتعذر |
وليس بها أن تستهين بجارة |
|
ولكنها منهن تحيا وتخفر |
فقوله: تعتل عن إتيانهن أي تعتذر بذكر وجه تخلفها عن زيارتهن فظهر أن التعلل في معنى ذكر العلَّة، له وجهه الصحيح).
وقد ذكر النحاة من معاني (عن) المطردة: (التعليل)، قاله صاحب المغنى (1 / 127) ومثَّل له بقول تعالى وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة ـ التوبة / 115. وفي الهمع للسيوطي (2 / 29) ما في المغنى. وفي شروح الألفية وغيرها من الأمهات نحو من ذلك وانظر إلى ما جاء في أمالي المرتضى حول تخريج قوله تعالى فخرعليهم السقف من فوقهم ـ النحل / 26 قال المرتضى (1 / 351): (قيل في ذلك أجوبة أولها أن يكون على معنى عن فيكون ـ فخر عنهم السقف من فوقهم ـ أي خرّ عن كفرهم وجحودهم بالله تعالى وآياته، كما يقول القائل: اشتكى فلان عن دواء شربه، وعلى دواء شربه، فيكون على وعن، بمعنى من أجل الدواء)!.
وإذا صح هذا فلِمَ لا نقول (اعتذرت إليه لغيابي) واللام فيه للتعليل أيضاً؟ والجواب عن ذلك: نقوله، وقد أجريت اللام في مجراها ووضعت موضعها، والكلام صحيح لا شَين فيه. ففي محاضرات الأدباء للراغب (450): (المعتذر لتركه الصلاة) ومعناه (المعتذر بسبب تركه الصلاة). وقد تكرر ذلك في المحاضرات فجاء فيه (286): (المعتذر للقصر) و(الممدوح بالخفة والمعتذر للنحافة)، وعلى هذا القول (اعتذرت لغيابي يوم الجمعة). وهو مستقيم.
المانعون لقول القائل (اعتذر عن التقصير):
منع الدكتور مصطفى جواد عضو المجمع العلمي العراقي، رحمه الله في كتابه (دراسات في فلسفة النحو) قول القائل (اعتذر عن التقصير والذنب) وجعل صوابه (من التقصير والذنب)، وأتى بشواهد من نصوص المعاجم وكلام الأيمة، بمجئ التعدية بـ (من). وقال: (وإنما تستعمل عن مع اعتذر ومصدره لإفادة معنى النيابة، يقال: اعتذر زيد عن عمرو من الذنب الذي جناه أو من تقصيره..). أما ما جاء في المصباح (واعتذر عن فعله: أظهرعذره) فقد ذهب جواد إلى أنه محرّف.
أقول في الجواب عن ذلك أن صاحب المصباح لم ينفرد بهذه التعدية كما رأيت، وليس ثمة ما يوجب الارتياب بنصه، وأما قول جواد (وإنما تستعمل عن لإفادة معنى النيابة) فهو صحيح، ولكن إذا دخلت (عن) على (من وجب عليه الاعتذار) لا على (سبب الاعتذار وعلته) وهذا واضح وقد أشرنا إليه.
المجيزون لقول القائل (اعتذر عن التقصير):
جاء في المعجم الوسيط، معجم المجمع القاهري: (ويقال اعتذار من ذنبه وعن فعله)، فهل أراد أن يخص الذنب بـ (من)، والفعل بـ (عن)؟ أقول إذا أراد ذلك فلا وجه له البتة، وإذا لم يعنِ ذلك فما الذي حمله على أن يحكي بالحرف عبارة الجوهري (الاعتذار من الذنب) ويضم إليها عبارة المصباح (واعتذر عن فعله) فيجمع بينهما ويوهم أن (من) في استعمال الفعل غير (عن)؟ وقد كان الأمثل أن يطبع على غرار الإفصاح فيقول (واعتذر عن فعله ومنه) أو (واعتذر من ذنبه وعنه).
وعرض الأستاذ محمد العدناني لتعدية (اعتذر) في معجمه (الأخطاء اللغوية الشائعة) فأقر تعدية الفعل بمن وعن لذكر العلة، لكنه عطف الأمر على (إنابة حرف مكان حرف) وليس ثمة (إنابة)، وإنما أجري كل حرف من الحرفين المذكورين في مجراه ووضع موضعه. ثم أنكر قول القائل (يعذُر) بالضم كينصُر، وجعل صوابه (يعذر) بالكسر كيضرب، قال (ويقولون: يعذُر فلا صديقه فيما صنع، بالضم، والصواب يعذر صديقه بالكسر..).
أقول: جاء الفعل على (يعذر) كيضرب، وعلى (يعذُر) كينصُر. قال ابن سيده في المخصص (13 / 81): (عذرته أعذُره عذراً ومعذرة بالفتح حكاها سيبويه..) فضم الذال في (أعذُره) وكسرها: وقال ابن منظور في اللسان (وعذره يعذُره فيما صنع عذراً..) فأتت الذال في المضارع الفعل مضمومة ومكسورة أيضاً. فقول الكتاب (يعذُره) بالضم صحيح كما رأيت ولا وجه فيه للتخطئة.
تعدية (اعتذر) بعلى:
أقول إذا كان (اعتذر) قد جاء بمعنى (احتجَّ) كما ذكره الهمذاني في الألفاظ الكتابية فقال (اعتذر وتعذر إذا احتجّ) وكان (العذر) كـ (الحجة) على ما جاء في اللسان (العذر: الحجة التي تعتذر بها) فقد اتفق أن عدَّي (اعتذر) بـ (على) كما يُعدى (احتجّ) فأنت تقول: (اعتذرت على فلان بعذر) كما تقول (احتججت عليه بحجة) فانظر إلى قول منصور بن مشحاج:
ومختبطٍ قد جاء، أو ذي قَرابةٍ |
|
فما اعتذرتْ إبلي عليه ولا نفسي |
قال المرزوقي في شرح الحماسة (1675): (فلا نفسي احتجزت عنه بمنع ولا إبلي اعتذرت عليه بعذر، كأن عذر الإبل تأخرُها عن مباءتها، أو ذكر وقوع آفة فيها أو تسلط جدب عليها، واحتجاز النفس: بُخلها بها وإقامة المعاذير الكاذبة دونها وما يجري هذا المجرى). وأصل الاختباط في الورق تقول اختبطت الورق إذا نفضته من الشجر، وكما يستعار الورق فيُكنَّى به عن المال يستعار الخبط فيكنَّى به عن طلبه.
القول في تعديه (كشَف)
قال الدكتور مصطفى جواد في كتابه (دراسات في فلسفة النحو والصرف..) ينتقد على كاتب بعض كلامه: (وكشف كنوزها.. ونظامها البديع، وقد أراد الكشف عن كنوزها. ومن العجب أنه قال قبيل ذلك: وكشف فيه عن سعة إطلاع، فسوَّى بين كشف عنه وكشفه).
أقول أراد الأستاذ جواد أن (كشفه) غير (كشف عنه). فالكشف إنما يكون (للساتر) وهو الغطاء أو ما يقوم مقامه ، فالغطاء هو المكشوف. أما المكشوف عنه فهو (المستور) أو ما ينوب منابه. قال (والأصل كشف الغطاء أو الستار أو الحجاب) وأردف (والجملة) الثانية ـ أي كشف عنه ـ أريد بها إزاحة ما يستُر، عن الشيء المستور حسب)، فما صواب المسألة؟
الأصل في معنى (كشف عنه):
لا خفاء بأن الأصل في الكشف هو إزاحة الغطاء أو الستار ورفعه عن المستور. تقول (كشف الخمار عن الوجه) و(كشف الغطاء عما وراءه). قال صاحب العين (الكشف رفعك عن الشيء ما يواريه ويغطيه). فتعدية الفعل إلى (الغطاء) أو (الحجاب) إنما يكون نفسه، وإلى (المستور أو المحجوب) بـ (عن).
وقد يطبق الغطاء على الإنسان فيغمره ويثقل عليه ويشتد، كالهم إذا غشي الإنسان فاحتواه، بل عظم عليه وشق، فتقول فيه: (جلوت الهمَّ عنه وسرّيته، بل كشفت عنه السوء أو الضر أو العذاب، وعلى هذا الحدآي التنزيل: لئن كشفت عنا الرجز ـ الأعراف / 133 وفلما كشفنا عنه ضرّه ـ يونس / 12 وكشفنا عنهم العذاب يونس / 38.
وقد يُلمٌ بالإنسان ما يحجب عنه النظر كشاغل من غمرة فيذهب ببصره كل مذهب، وقد فُسِّر به قوله تعالى: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرُك اليوم حديد ـ ق / 22. قال الإمام البيضاوي: (الغطاء الحاجب لأمور المعاد وهو الغفلة والانهماك.. وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى كنت في غفلة من أمور الديانة، فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي القرآن، وبصرك اليوم حديد ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون).
ومما قيل على حد (كشف الغطاء) قول أبي علي المرزوقي في شرح الحماسة (1060): (ثم كشفت الغمة وأثبتَّ الحجة بكلام فصيح لا يلتبس) أي رفعت الغمة عنه وأزحتها) وقوله (1091): (فتركت بعدها دواهي وخطوباً عظيمة هي في أغطيتها لم تظهر ولم يكشف عنها)، أي لم يكشف عنها غطاؤها، وقوله (1093): (فتذكر معايبهم وتكشف عن مستور مخازيهم ومجهول مقابحهم ومساويهم) أي تكشف عنها ما كان يحجبها، وقوله (760): (تندمٌ على ما قصَّر فيه من النظر والفحص والكشف عن عقبى الأمر). وقول الخفاجي صاحب سرّ الفصاحة (31): (وذلك أليق بالمتكلمين الذين هم أصحاب التحقيق، والكشف عن أسرار المعلومات وغوامض الأشياء) أي كشف الغطاء عما طُوي عن فهم الناس.
الأصل في معنى (كشفه):
أقول إذا اتفق قول صاحب العين (الكشف رفعك عن الشيء ما يواريه ويغطيه) كما حكاه ابن سيده في المخصص (13 / 144)، فقد أردف: (وكشفت الأمر أكشفه كشفاً: أظهرته). وحكى ابن سيده عن أبي زيد أيضاً (جلوت الأمر وجلَّيته وجلَّيت عنه: كشفته وأظهرته، وقد انجلى وتجلَّى). وقال ابن منظور في اللسان: (وكشف الأمر يكشفه كشفاً: أظهره).
وهذا يعني أن للفعل منحى آخر يتعدى فيه بنفسه إلى (المجهول أو المخفي)، تقول: (كشفت الأمر إذا جلوته وأظهرته). فإذا كان (كشفت الغطاء عن المجهول) هو الأصل، فكيف تفرُع عليه هذا؟.
أقول: الأصل قولك (كشفت الحجاب عن المجهول)، ولك أن تقول: (كشفت حجاب المجهول)، فإذا عرفت أن (الحجاب) يلازم (المجهول)، واعتذرت بهذا فاستغنيت عنه بذكر (المجهول) حذفت المضاف فقلت (كشفت المجهول إذا أظهرته. وأكثر ما يكون الاستغناء عن (الحجاب) أي المضاف ها هنا، إذا كان الحاجب دون المجهول هو الغموض والخفاء والجهل والضياع، فيكون معنى كشف المجهول هو الاهتداء إليه وإظهاره. وحذف المضاف في القرآن والشعر، وفصيح الكلام في عدد الرمل سعة، أستغفر الله وربما حذفت العرب المضاف بعد المضاف مكرراً أنساً بالحال ودلالة على موضوع الكلام، كما قال أبو الفتح (المحتسب ـ 1 / 188) فعلى هذا القول ابن جني في المحتسب (1 / 239): (وكشفت هذا الموضع يوماً لبعض ما كان له مذهب في المشاغبة). وقول جُرَيبة الفقعسي:
هم كشفوا عيبَة العائبين |
|
من العار أوجُههم كالحُمم |
قال المرزوقي في شرح الحماسة (774): (وقولهم هم كشفوا عيبة العائبين... أي أظهروا من عيب من كان يطلب عيبهم، ما كان خافياً.. فكأنهم كشفوا عيابهم المنطوية على عيوبهم فأسودّت وجوههم بما غشيها من العار، حتى صارت كالحُمم).
والعيبة هنا موطن العيوب ومودعه. وانظر إلى قول أبي الحجناء: (شرح الحماسة / 923)
وجرَّبتُ ما جربت منه فسّرني |
|
ولا يكشف الفتيان غير التجارب |
أي يكشف دخيلتهم.
وهذا قول المرزوقي (520): (وهذا المعنى قد كشَف غيرهُ) أي أظهره وجلاه. وقول الخفاجي صاحب سر الفصاحة (30): (ويكشف هذا المعنى للمتأمل أن العرب) وقوله (وكشف هذا.. ما أريد) وقوله (71): (فالعلم بها واضح وكشفهاجلي). فلا بأس بعد هذا بأن تقول: (كشفت كنوزها.. ونظامها البديع) إذا اهتديت إلى هذه الكنوز فأظهرتها، وإلى هذا النظام فجلوته؟ ولا وجه لطعن جوادٍ على قائله بأن الغطاء هو المكشوف، وأن المستور هو المكشوف عنه. ذلك بأن قول الأيمة صريح بأن كشف الأمر: إظهاره وجلاؤه، وإذا ذهبت تخرِّجه على الأصل قلت: إن الكنوز ها هنا هي المجهول، وأنت تكشف حجاب المجهول، على الأصل، وتكشف المجهول أي الكنوز على حذف المضاف كما مر بك.
وقد بسط ـ الدكتور جواد رأيه الذي ذكرنا، في كتاب آخر له، هو (قل ولا تقل) فمنع قول القائل (كشفت الأمر الخفي) أول الأمر. ثم عدل عن التلحين إلى الإيثار فقال: (فالفصيح أن يقال الكشف عن الأمر الخفي) وكان قد بدأ قوله (قل كشفت عن الأمر الخفي خفاءه، ولا تقل: كشفت الأمر الخفي). أقول لا وجه، بل لا مساغ البتة لما ذهب إليه الأستاذ، وإلا فما معنى قول الأيمة بل إطباقهم على أنك (إذا كشفت الأمر) فقد أظهرته، أو يخرج الأمر عن أن يكون (أمراً) إذا كان خفياً؟ وإذا كان لا يصح أن يكون المكشوف غير غطاء وحجاب أو خفاء أو قناع، كما ذهب إليه جواد، فكيف أطرد عن الفصحاء الأثبات قولهم (كشف فلان عورة جاره)؟ فانظر إلى قول الجاحظ في كتابه (حجج النبوة): (ولو كان كل كشف هتكاً، وكل امتحان تجسساً، لكان القاضي أهتك الناس لسرٍ وأشد الناس كشفاً لعورة)، وقوله: (لا من طريق الاعتساف، ولا من طريق كشف العورة) فليس المكشوف فيه كما رأيت، غطاء، أو ما يشاكله أو يغني مُغناة.
فرق ما بين كشفه وكشف عنه:
أقول لا شك أن استعمال (عن) على الأصل أدل على أبرز ما قام دون (المجهول) من حجاب حائل، واتفق من غطاء ساتر، كما هو حال (الكنوز) حين تخفى وتخبأ وتطوى، لذا كان قولك (كشفت عن الكنوز) أليق بالمراد. وهذا ما أوحى به المرزوقي حين قال: (فتذكر معايبهم وتكشف عن مستور مخازيهم ومجهول مقابحهم ومساويهم)، وما أراده إذ قال: (من النظر والفحص والكشف عن عقبى الأمر) فمهَّد للكشف بالنظر والفحص وما أفصح عنه بقوله ( 1136): " وما يظهر من معادن الذهب صبيحة مطرة تكشف عن عروق الذهب". بل هذا ما قصده الخفاجي بقوله (وذلك أليق بالمتكلمين أصحاب التحقيق والكشف عن أسرار المعلومات وغوامض الأشياء، إذ لو لم يكن هؤلاء أصحاب تدبر وتأمل وتحقيق ما ظفروا بالكشف عن هذه الأسرار والغوامض.
خلاصة القول في تعدية (كشف):
والخلاصة أنك تقول على الأصل كشفت الغطاء عن المستور، فإذا حذفت المفعول لظهوره قلت كشفت عن المستور، ويغلب هذا حين يكون المستور خفياً. كما تقول كشفت غطاء المستور فإذا حذفت المضاف قلت كشفت المستور، ولا يشترط في هذا أن يكون المستور خفياً. ولكن هل تقول كشفت عن الغطاء وتريد أنك كشفت عن الغطاء ما واراه، أي انصرفت عنه إلى ما وراءه؟ أقول الأصل أن تقول مثلاً: كشفت المرأة وجهها، فإذا اعتادت أن تخفيه قلت كشفت المرأة عن وجهها وتقول كشفت المرأة قناعها عن وجه مضيء، على الأصل، وكشفت عن قناعها وجهاً مضيئاً إذا أظهرت وجهها المضيء، فتكون (عن) هنا (للمجاوزة)، أي كشفت الوجه المضيء منصرفة عن القناع إلى ما واراه أو ما وراءه. وقد جاء في رسائل الجاحظ (رسالته في الشارب والمشروب، ورسالته في بني أمية):
(كشفت عن القناع). وفي مقدمة المرزوقي في شرح الحماسة قوله (والكشف عن قناع المعنى بلفظ هو في الاختيار أولى / 6).
القول في تعدية (قسم)
أخذ الدكتور مصطفى جواد على الشيخ رؤوف جمال الدين قوله: (الفعل ينقسم إلى قسمين متعدٍ ولازم)، وجعل صوابه (ينقسم على قسمين..) فقال في كتابه (دراسات في فلسفة النحو والصرف..): (فمن استعمل من النحويين ـ قسم إلى كذا ـ بدلاً من ـ قسم على كذا ـ فهو محجوج بما ذكره هو نفسه من معاني إلى، وبما استعمله الفصحاء كالجاحظ وغيره). وقد استظهر الأستاذ بعبارة الجاحظ في كتابه (الحيوان): (وبعض الناس يقسم الجن على قسمين)، وقول ابن حزم الأندلسي في نسب الأنصار (زيد بطن ضخم ينقسم على بطون)، ووقل أبي علي الأنصاري في بعض كتبه (كنفس قُسِّمت على جسمين).
أقول لم يزد الأستاذ فيما قرر وجزم، على أن سَرد ما سرد، ولم يورد على قوله البيِّنه ليكون رأيه هو الأسدّ وحكمه هو الأحجى. بل لم يفصح عما ذكر النحاة من معاني (إلى). ولك ما عمد إليه أنه حكى ما اتفق للجاحظ وابن حزم وأبي علي الأنصاري أن قالوه فأجروا فيه تعدية الفعل بـ (على). ونحن لو حكينا من كلام الأيمة الفحول ما عدّوا فيه الفعل بـ (إلى) لما أقنعه سفر بجملته، فما صواب المسألة ووجه الكلام فيما نزع إليه الأستاذ؟.
تعدية (قسم) وما اشتق منه بعدّة من حروف الجر، منها على وإلى:
قال ابن منظور في اللسان: (القسم مصدر قسم الشيء يقسمه قَسماً فانقسم.. وقسَّمه جزّأه، وهي القسمة. والقسم بالكسر النصيب والحظ والجمع الأقسام).
وقال (والقسام بالتشديد الذي يقسِّم الدور والأرض بين الشركاء فيها)، وقال: (والقسامة بالضم الصدَقة لأنها تقسم على الضعفاء).
وقال الراغب في مفرداته: (القسم الإفراز يقال قسمته كذا قسماً وقِسمة، وقسمةُ الميراث وقسمة الغنيمة تفريقهما على أربابهما).
والذي يتبين من هذا أنك إذا أردت أن (تقسم) المال مثلاً على جماعة فتجعل لكل فرد نصيباً قلت: (قسمت المال بين هؤلاء) أو (قسمت المال على هؤلاء). أي فرّقته بينهم. قال الجاحظ في كتابه (حجج النبوّة): (يجعل فضله مقسَّماً بين جميع الأولياء). وقال في كتابه (التربيع والتدوير): (أو الدول بينهما مقسومة وعليهما موقوفة). وقال فيه: (وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان) وقد تقول (قسَّمته فيهم). ففي محاضرات الأدباء للراغب (3 / 294):
لو قسَّم الله جزءاً من محاسنه |
|
في الناس طُراًُ لتمَّ الحسن في الناس). |
وقال عروة بن الورد:
أقسِّم جسمي في جسومٍ كثيرة |
|
وأحسو قَراح الماء والماء بارد |
قال ابن السكيت: (قوله: أقسَّم جسمي، الجسم ها هنا طعامه، يقول أقسم ما أريد أن أطعمه في محاويج قومي، ومن يلزمني حقه والضيفان. وأحسو قراح الماء، والماء القَراح الذي لا يخالطه لبن ولا غيره، والماء البارد أي في الشتاء / 52).
على أن لك أن تعدّي الفعل بـ (إلى) أيضاً إذا أردت معناها، كأن تروم بيان الأجزاء التي انتهت إليها القسمة. فانظر إلى قول الإمام أبي حيان في البحر المحيط: (وافتراق الناس إلى ثلاث فرق). ولو أحللت (الانقسام) محل (الافتراق) لكان الكلام (وانقسام الناس إلى ثلاثة أقسام). وتأويله: أنهم قد انتهوا في افتراقهم أو انقسامهم إلى ثلاث شعب. و(إلى) ها هنا لانتهاء الغاية، وهو رأس معانيها وملاكه، فإذا قلت (قسمت كتابي إلى ثلاثة أبواب) أردت أن الكتاب قد انتهى بهذه القسمة أو صار إلى هذه الأبواب الثلاثة، وكله صحيح على تأويله وبابه. وانظر إلى ما قاله ثعلب في تفسير قوله تعالى انطلقوا إلى ظلٍ ذي ثلاث شعب ـ المرسلات / 30 : (يقال أن النار يوم القيامة تنفرق ثلاث فرق، فكلما ذهبوا أن يخرجوا إلى موضع ردتهم..) على ما جاء في التاج، وقد جاء ذلك في اللسان فزاد في روايته (إلى) أي (تنفرق إلى ثلاث فرق).
وإذا قلت (قسمت الكتاب قسمين) أو (شطرين). كان انتصاب (قسمين) على المصدر. ولك أن تنصبه حالاً مقدراً فيه (قسمت الكتاب متفرقاً). فإذا صح هذا وأمكن مثل هذا التقدير، قلت: قسمت الكتاب إلى قسمين) على معنى (قسمته متفرقاً إلى قسمين). فانظر إلى قول المرزوقي في شرح الحماسة (826) حول قول الشاعر (قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا): (وانتصب شطرين على المصدر كأنه قال قسمنا الدهر قسمين. ويجوز أن يكون حالاً على معنى قسمناه مختلفاً فوقع الاسم موقع الصفة لما تضمن معناه، كما تقول طرحت متاعي بعضه فوق بعض كأنك قلت متفرقاً، والمراد جعلنا أوقات الدهر بيننا وبين أعدائنا مقسومة قسمين).
وتأمل قول المرزوقي في شرح الحماسة (1191) حول بيت يزيد بن الحكم:
والناسُ مبتَنيانِ محمود البنايةِ أو ذميمُ |
: (ومعنى البيت أن أفعال عقلاء الناس لا تخلو من أن تكون مما يُستحق به حمدٌ أو ذمٌ، فهم يبنون مبانيهم ويؤسسون مكاسبهم على أحد هذين الركنين، وذلك لأن الأفعال تابعة للأغراض، وغرض العاقل إليهما ينقسم). فتأويل قوله هذا أن غرض العاقل ينتهي في قسمته أو يصير إليهما، أي إلى هذين الركنين. وأردف المرزقي: (فانظر ماذا تجلب على نفسك ما تبتغيه من فعلك وتدخره من كسبك). وقال على هذا الغرار (1316): (وإذا تأملت حوادث الدهر وجدتها لا تنقسم إلا إلى قسمته، لأنها لا تخلو أن تكون محبوبة أو مكروهة، أو واقعة أو منتظرة، أو مخوفة أو مرجوة). وهذا قول ابن جني في سر الصناعة (1 / 69): (وللحروف انقسام آخر إلى الشدّة والرخاوة وما بينهما)، وقوله (1 / 71): (وللحروف قسمة أخرى إلى الأصل والزيادة). وقوله في الخصائص (3 / 67): (وذلك كأن تقسم نحو مروان إلى ما يحتمل حاله من التمثيل له فتقول: لا يخلو من أن يكون فَعلان أو مفعالا أو فعوالا). ونحو ذلك قول صاحب سر الفصاحة (24): (وللحروف انقسام إلى الصحة والاعتلال والزيادة والسكون والحركة وغير ذلك).
أقول: ومن هنا إطباق العلماء والنحاة والكتاب قديماً على هذه التعدية. فقد جاء في مقدمة كتاب كليلة ودمنة (وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض: أحدها ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم..) قال هذا لأن الكتاب في الأصل جملة مسائل تُبحث وأغراض تُشرح وقال الجاحظ في بعض رسائله (الخاصة: (وقد تنقسم المودة إلى ثلاث منازل: منها ما يكون عن اهتزاز الأريحية وطبع الحرية..)، وقال صاحب الكليات أبو البقاء (411): (لسان العرب ينقسم إلى ما لا يقاس... وإلى ما يطرد فيه القياس، وأن ما يجري فيه قياس مقرون بالسماع).
الأصل في تعدية (قسم) بعلى:
والأصل في استعمال (على) مع الفعل ها هنا، أن يكون (المقسوم) غير (المقسوم) عليه كما في قولك (قسمت الغنيمة على أربابها) أو (قسمت الصدقة على الضعفاء). فالغنيمة غير الأرباب والصدقة غير الضغفاء. ومن ذلك قول المرزوقي في مقدمة شرح الحماسة (وكان اللفظ مقسوماً على رتب المعاني، قد جُعل الأخصّ للأخص، والأخسّ للأخس).
والأصل في أعمال (إلى) إن يكون (المقسوم إليه) هو (المقسوم) نفسه، كما في قولك (انقسم الناس إلى ثلاثة أصناف)، أي انتهوا في القسمة أو آلوا إلى هذه الأصناف. ولكن يصح أن تحلّ (على) محل (إلى) فتقول (قسمت كتابي على ثلاثة أبواب) أي فرقت ما فيه وجزّأته ثلاثة أجزاء فجعلت كل جزء من الأجزاء في باب من الأبواب وخصصته به، كأن الباب غير الكتاب. ولا يصحّ أن تحل (إلى) محل (على) في مثل قولك (قسمت الميراث على الورثة) لأن فحواه أنك قسمت الميراث أنصبَة كعدد الوارثين وجعلت لكل نصيبه، ولا يمكن أن تؤدي (إلى) هذا المؤدى لأنها لمجرد الإشارة إلى ما آلت إليه القسمة من أجزاء، فاستعمال (على) هو المراد من قسمة الميراث دون (إلى) وهو ألصق بالمعنى وأوفى بالغرض.
وهكذا ما مرَّ بك من قول الجاحظ (كنفس قُسمت على جسمين) فإن معناه (كنفس شُطرت بين جسمين) فكان لكل جسم من هذه النفس شطر ونصيب. وهذا موضع (على) لا موضع (إلى)، ولو قلت: (كنفس قسِّمت إلى قسمين) لم يستقم المعنى الذي أردت.
متى تصح تعدية (قسم) بإلى، ومتى تصح بعلى:
كلما صح قولك (قسمت الشيء قسمين أو ثلاثة) وهو أصل التعبير، على حدّ ما جاء في الحديث (ستفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة)، جاز قولك (قسمته إلى قسمين أو ثلاثة) أو (قسمته على قسمين أو ثلاثة). وكلما ساغ أن تقول (قسمت الشيء بينهما، أو بين هذه الأشياء أو بين هؤلاء) كقول علي عليه السلام في نهج البلاغة (2 / 185) (فقسم بينهم معايشهم) وهو أصل التعبير عن هذا المعنى، استقام قولك (قسمت الشيء عليهما أو على هذه الأشياء أو على هؤلاء) ولم يُغنِ قولك (قسمت الشيء إليهما أو إليها أو إليهم).
شواهد تبرز الغرض من تعدية الأفعال بإلى، كما عدّي (قسم):
من أمثلة ما عُدِّي بـ (إلى) لانتهاء الغاية، كما عُدَّي (قسم)، أي لانتهاء فاعل الفعل أو ما ينوب منابه إلى غاية، تعدية (سهَّل وأبدل وقلب وتقلَّب وانقلب وانفصل..). تقول (سهَّل الشيء إلى كذا) أي سهله فانتهى بالتسهيل إليه، و(أبدله إلى كذا) أي أبدله فانتهى بالإبدال إليه، كما كان (قسمه إلى كذا) بمعنى (قسمه فانتهى بالقسمة إلى كذا..).
قال صاحب المصباح في مقدمته (وإن وقعت الهمزة عيناً وانكسر ما قبلها جعلت مكان الياء لأنها ـ تسهِّل إليها ـ نحو البئر والذئب).
وقال ابن جني (2 / 9): (وأبدل إلى الهمز حرفاً لاحظّ في الهمز له، بضدِّ ما يجب لأنه لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغيير إحداهما)، وأردف (فكيف يقلب إلى الهمز قلباً ساذجاً عن غير صنعة ما لاحظ له من الهمز).
وقال ابن جني في سر صناعة الإعراب (3 / 231): (قد قدمنا في كتابنا الخصائص صدراً صالحاً من ـ تقلب الأصل الواحد والمادة إلى صور مختلفة يخطمُها ـ يريد ينتظمها ويقودها ـ كلها معنى واحد، ووسمناه بباب الاشتقاق الأكبر).
وجاء في نهج البلاغة (2 / 58) وليكن من أبناء الآخرة فإنه منها قَدِم، واليها ينقلب). ولا ننسَ أن (انقلب) قد عُدَّي بإلى غير مرة، في أي الذكر الحكيم، حين جاء بمعنى (رجع).
وجاء في محاضرات الأدباء للراغب (3 / 211): (وكتب الصابئ عن عز الدولة إلى أبي تغلب، وقد نقل ابنته إليه: قد وجهت الوديعة، وإنما نقلت من وطن إلى سكن، ومن مغرس إلى مغرس. وهي مني انفصلت إليك وثمرة من جني قلبي حصلت لديك). وهو جليّ بيِّن.
القول في معنى (تعرَّض له)
مذهب جواد في استعمال (تعرّض له) وحجته:
قطع الدكتور مصطفى جواد في كتابه (قل ولا تقل) أن قولك (تعرَّض له) ينمّ على رغبة الفاعل في الفعل، والمفعول إن وجد، فيمتنع على هذا أن تقول (تعرّض فلان للتعذيب) أو نحو ذلك، إذ لا يستقيم أن يكون المتعرّض راغباً في (التعذيب) أو ما يشاكله من معاناة ومقاساة، وأن صواب التعبير أن تقول (عُرِّض للتعذيب).
قال الأستاذ جواد: (وإن من الأغلاط ما ارتكبه أدباء كبراء كالدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد وتابعهما عليه مقلدوهما غير عالمين بها لأنهما قدوتهم وموضع ثقتهم. فالفعل الشائع اليوم في أقوال الكتَّاب: تعرَّض، والخطأ في استعماله إنما ظهر في كتاب الأيام، ففي الصفحة.. منه قول الكاتب وكان ذكاؤه واضحاً وإتقانه للغة بيِّناً. وحسن تصرفه فيه لا يتعرض للشك.. وفي الصفحة.. قوله: وكان الأزهر قد تعرض لألوان مختلفة من النظام).
وقد استشهد بما جاء في المقاييس لأحمد بن فارس: (تعرض لي بما أكره..) والصحاح ومختاره: (وتعرّض لفلان: تصدّى له..) والمصباح: (وتعرّض للمعروف وتعرّضه يتعدَّى بنفسه وبالحرف إذا تصدّى لذكره)، واللسان: (انطلق فلأن يتعرّض بجَمَله للسوق إذا عرضه على البيع.. والعرب تقول: عرض لي الشيء وأعرض وتعرض واعترض بمعنى واحد).
القول فيما أتى به جواد من نصوص وشواهد:
أقول ليس فيما بسط الأستاذ جواد من النصوص والشواهد ما يوجب أن يكون (المتعرّض) راغباً فيما تعرّض له، لكنه يكون طالباً له مبتغياً إياه، وقد يطلب المرء شيئاً ولا يرغب فيه. وإذا كان (تعرض له كتصدَّى) فالطلب والابتغاء شرط في التعرّض. ومن هذا قولك (تعرضت لمعروفه) إذا طلبته. ولكنه قيل أيضاً (تعرَّض فلان للتلف) و(تعرّض للخزي) و(تعرض للهلاك) كما ثبت اطراده عن الفصحاء فما وجهه؟.
أقول: (تعرض) كما قال ابن منظور كـ (عَرَضَ واعترض). فالأصل ألاَّ تتعرض للتلف أو تعرض له أو تعترضه، وإنما الوجه أن يتعرّض لك فيبتغيك، أو يعرض لك أو يعترضك. فإذا قلت (تعرض للمكروه) أو (للتعذيب) فهو كما يبدو، على القلب، لا على الأصل، لأنه بمعنى تعرَّض لك المكروه أو التعذيب مجازاً، فأصبحت له عُرضة وغرضاً. وقد اتفق بهذا أن يكون المتعرض مبتغياً في اللفظ، وهو المتبغى والهدف في المعنى، وأن يكون (تعرض له) كـ (عُرِّض له). وحين بدا للأستاذ جواد هذا ودلّ عليه نص صريح نكر النص وعاف الدليل، وقال (وقد تركت نصاً واحداً ورد في الصحاح ومختاره يخالف واقع اللغة، وإني ذاكره بعد إيراد شواهد واقع اللغة، أي استعمال تعرض في كتب الأدب وكتب التاريخ). أما نص الصحاح ومختاره فهو (وعرضت فلاناً لكذا فتعرّض هو له) أي غدا هدفاً له.
وثمة نص آخر أتى به الأستاذ جواد، على أنه حجة له، وهو حجة عليه. قال ابن منظور: (والعرب تقول عرض لي الشيء وأعرض وتعرَّض واعترض بمعنى واحد).
فإذا كان (تعرّض له) كـ (أعرض له)، فما الذي يعنيه قولك، على المجاز، (أعرض فلان للمكروه)؟ إنه يعني أنه أبدى (عرضه) بالضم للمكروه فأمكنه منه، كأعور الشيء إذا أبدى عورته. فالمعرض أو المعور هو الذي أمكن آخر من عُرضه بالضم أو عورته فغدا له هدفاً وغرضاً. ففي الأساس: (أعرض لك الصيد فأرمه، وهو مُعرض لك) وفيه (وقد أعور لك الصيدُ وأعورك: أمكنك) فغدا هدفاً لك. هذا إذا كان الشيء هو المعرض أو المعور، فإذا كان المرء كما مثلنا هو المعرض أو المعور غدا هو الغرض والهدف. فقولك أعرض فلان للمكروه) معناه أمكن المكروه من نفسه وكذا المتعرض فقولك (تعرض فلان للتلف) مثلاً مؤداه أنه أمكن التلف من نفسه فغدا غرضاً له. وهذا ما عناه الكتَّاب حين جرت أقلامهم به، ونطقت ألسنة الأيمة على منهاجه وطبعت على غراره.
أمثلة من كلام الفصحاء تشهد بصحة ما أنكره جواد:
وهذه طائفة من أقوال أصحاب البيان وفصحاء القوم تشهد بأن ما ذكره الأستاذ جواد، على أنه مخالف لواقع اللغة، إنما هو من طرائق اللغة وأساليب، بل تقيم الدليل على سداد ما ذهبنا إليه وتنسخ عنه كل شك. فقد جاء في نهج البلاغة (2 / 151): (فكم خصكم بنعمة، وتدارككم برحمة. أعورتم له فستركم، وتعرضتم لأخذه فأمهلكم). قال الشارح: (أعورتم له أي ظهرت عوراتكم وعيوبكم، وتعرَّضتم لأخذه أي يأخذكم بالعقاب). ففحواه إذاً: أبديتم عوراتكم فستركم وعرّضتم أنفسكم لعقابه فأمهلكم).
وفي كليلة ودمنة: (فإذا اجتمع عليه هذان الصنِّفان فقد تعرَّض للهلاك ـ باب الأسد وابن آوى) وفيه (والرجل الأرمد العين إذا استقبل بها الريح، تعرّض لأن تزداد رمداً ـ باب الملك والطائر) وقال أبو حيان التوحيدي في كتابه (أخلاق الوزيرين): (والله، للخروج من الطارف والتليد أسهل من التعرّض لهذا القول والصبر عليه وقلة الاكتراث به / 90) قال هذا، في اليزيدي هجاه شاعرٌ هجاء مرّاً.
وقال المرزوقي في شرح الحماسة (789): (حتى كان يترك السفر واكتساب الأحدوثة بما يُمتهن فيه، ويتعرض من أجله للتلف). قال فيه (738): (أما تخافون أن يحق عليكم العذاب إذا استهنتم بالوعيد.. وتعرضتم لسخط الله عز وجل، في تجاوز مأموره). وقال (80): (وأما قتلٌ، وهو بالحرِّ أجدر من التعرض لما يُخزيه ويُكسبه الذل). وقال (816): (وابتذاله النفس وتعرضه للحتف)، والحتف: الهلاك.
وقال ابن جني في الخصائص (470): (وإنما وجب أن يرتَّب هذا العمل هذا الترتيب من قبل أنك لمَّا كرهت الواو هنا لما تتعرض له من الكسرة والياء)، وقال في المحتسب (1 / 179): (والفضلة متعرّضة للحذف والبذلة). وقال فيه (1 / 243): (إن الفَعلة واحدة من جنسها، والواحد مُعرَّض للتثنية والجمع)، أفرأيت كيف جعل (متعرضة) من تعرّض له. كـ (معرَّضة) من عُرِّض له، فأنزلهما في المعنى منزلة واحدة.
خلاصة القول في معنى (تعرّض له):
فاستبان بما تقدم أن (تعرض له) كـ (عُرّض له) أو (أعرض له)، من قولك عرّضته لكذا فتعرض له، فيكون (تعرّض) هذا من قبيل (تفعل) الذي يدل على المطاوعة نحو حذَّرته فتحذر ونبّهته فتبَّنبَّه وعزَّيته فتعزّى، وقد أنكره الأستاذ جواد بلا بيِّنه وأباه بلا سلطان. ويأتي (تعرَّض له) بهذا المعنى كلما ابتغاك الشيء فجعلك غرضاً له، نحو قولك (تركت السفر الطويل مخافة التعرض للمرض). أما إذا ابتغيت الشيء وعزمت على طلبه كان (تعرّض له) كـ (تصدّى له). ويكون (تعرض) هذا من قبيل (تفعَّل) الذي يدل على تكلف الفاعل بإصرار كتتبع وتقصَّي وتحرَّى، وذلك كقولك (ينبغي للمرء أن يتعرض لأسباب المرض فيعالجها ويحاول أن يتَّقيها).
وليست المفارقة أن تأتي صيغة (تفعَّل) للتكلف حيناً والمطاوعة حيناً آخر، ولكن المفارقة أن يجتمع لفعل واحد بهذه الصيغة وهو (تعرَّض)، التكلف والمطاوعة جميعاً. والذي عندي أن الأصل فيه التكلف وهو المعنى الغالب لتفعل. أما المطاوعة فقد كانت فرعاً عليه. فالأصل ألا تتعرض للتلف إذا عنيت به أنك أبديت عُرضك له وأمكنته منه، وإنما الوجه أن يتعرض لك أن يبتغيك ويعرض لك ويعترضك،، فإذا قلت (تعرضت للتلف) وأردت المعنى الأول فهو على القلب لا على الأصل. وشبيه بهذا ما مثل به المبرّد للقلب من كلام العرب في كتابه (الكامل) وهو قولهم (المرأة تنوء بها عجيزتها) أي تثقلها، وقولهم (وهي تنوء بعجيزتها) أي تنهض بها مثقلة.
على أنه إذا كان الأصل ألاَّ يبتغي المرء ما يتفق منه معاناة أو نصب أو يتعرض فيتصدّى لما يجلب عليه العناء والشقاء، فقد يطلب المرء المشقة نفسها، بل يركب أكتاف الشدائد ليحقق بذلك غاية ويبلغِ مُنية. فانظر إلى قول الجاحظ في كتاب الحيوان حول ما قاسى من نصب وعانى من صعد ولقي من برحٍ في تأليف كتابه واستتمام فصوله، (لأني كنت لا أفرغ فيه إلى تلفظ الأشعار وتتبع الأمثال واستخراج الآي من القرآن، والحجج من الرواية، مع تفرّق هذه الأمور في الكتب، وتباعد ما بين الأشكال. فإن وجدت فيه خللا من اضطراب لفظ ومن سوء تأليف.. فلا تنكر بعد أن صورت عندك حالي التي ابتدأت عليها كتابي، ولولا ما أرجو من عون الله على إتمامه.. لما تعرضت لهذا المكروه). فليس التعرض ها هنا على معنى إبداء عُرضه للمكروه وتعريض صفحته له لتلقِّي أثره واحتمال بوائقه، وإنما هو على معنى التصدي والابتغاء.
وعندي أن من هذا القبيل قول زاهر التيمي:
ومحشُّ حربٍ مُقدِم متعرّض |
|
للموت غير مُعرِّد حيَّاد |
كالليث لا يَثنيه عن إقدامه |
|
خوف الردى وقعاقع الإيعاد |
مذِلْ بمهجته إذا ما كذّبت |
|
خوف المنية نجدةُ الأنجاد |
قال المرزوقي (683): (يريد أنه يقدم ولا يُحجم... هو في بأسه وإقدامه مثل الليث لا يصرفه عن الوجه الذي يؤمه، والأمر الذي يُهمه ما يستشعره الجبان من خوف الموت وقعقعة الوعيد)، وأردف (وقوله: مَذل بمهجته، كأنه يطول تعرّضه للشدائد ويدوم ابتذاله لما يجب صونه من كرائم النفس، فعل من ضجر بمهجته فاستقتل واستطاب الموت فتعجل. ويقال مَذِل بسرّه: إذا باح به).
القول في تعدية (تعرض) هل يكون بـ (إلى) كما كان باللام؟
جاء في كتاب (تذكرة الكاتب) للأستاذ أسعد خليل داغر، رحمه الله: (ويعدّون الفعل تعرض بإلى فيقولون ـ لم يفكروا أن يتعرضوا إلى أحد ـ وهو بهذا المعنى إنما يتعدى باللام تقول- تعرض له وطلبه). فأنكر بذلك تعدية (تعرّض) بإلى، وليس هذا صحيحاً. فإذا قلت (تعرّض إلى فلان) فقد قصدت أن تعرّضك إنما تناول فلاناً بطلبه وابتغائه. وإذا قلت (تعرّض لفلان) فقد أردت أن تعرضك بالطلب والابتغاء إنما انتهى وصار إليه. فقد جاء في كتاب لطائف اللطف لأبي منصور النيسابوري الثعالبي المتوفى (429 هـ): (معن بن زائدة تعرض إليه رجل فقال: احملني أيها الأمير، فقال: أعطوه جملاً وفرساً وبغلاً وحماراً وجارية، وقال: لو علمت أن الله تعالى خلق مركوباً سوى ما ذكرناه لأمرنا لك به). فقال (تعرض إليه رجل) وعدّى الفعل بإلى خلافاً لما ذهب إليه الأستاذ داغر. ونحو من ذلك ما جاء في النهاية لابن الأثير: (وفي حديث الوليد بن يزيد عبد الملك: أفقر بعد مسلمة الصيد لمن رمى أي أمكن الصيد من فقاره لراميه. أراد أن عمه مسلمة كان كثير الغزو يحمي بيضة الإسلام ويتولى سداد الثغور، فلما مات اختل ذلك وأمكن الإسلام لمن يتعرض إليه، فقال: أفقرك الصيد، فارمه أي أمكنك من نفسه ـ مادة فقر).
القول في تعدية (أجاب)
ومما نحن على سمته تعدية (أجاب) ومصدره (الإجابة) واسم مصدره (الجواب). ففي شرح مجمع الأمثال (يقال أجاب إجابة وجابة وجواباً وجيبة). وتعدية الفعل في الأصل تكون بـ (عن)، فاستعمال الفعل بـ (على) دون (عن) لحن إذا أريد بـ (على) ما يُراد بـ (عن) من الإجابة عن السؤال أو ما يقوم مقامه. لكن تصرَّف الفعل ب، (عن) لا يمنع تعديته بغيره من الحروف الجارّة التي حُدَّت معانيها المطَّردة في الأمهات، إذا اتسعت لها معاني الفعل. فأنت تقول مثلاً (أجبت في الكتاب) على الظرفية، و(بالكتاب) على الاستعانة والظرفية أيضاً، و(أجبت عنه) على البدلية، و(على ورقة بيضاء) على الاستعلاء الحسِّي، و(أجبت لأمر مهم) على التعليل، و(أجبت عن الأسئلة من أولها إلى آخرها) على ابتداء الغاية وانتهائها.
وإذا أردت بالفعل أو مصدره أن يترتب على أمر من الأمور أو يُبنى عليه فعدولك بالتعدية إلى (على) سائغ مستقيم، كقولك (وإنما أجبتكم عن أسئلتكم، على ما جاء في كتابكم) أو (إنما جوابي عن أسئلتكم، على ما جاء في كتابكم). وتحذف إن شئت (عن أسئلتكم) لظهور الغرض، استغناء بما في الكتاب من ترتب الجواب الذي يقتضي (على) إذا أردت أن ينصرف الذهن إلى هذا فتقول: وإنما أجبتكم، على ما جاء في كتابكم،) و(إنما جوابي، على ما جاء فيه) فيكون كلامك صحيحاً، إذا انتويت فيه هذه الجهة.
فانظر إلى ما جاء في أمالي المرتضى (1 / 490): (فإن قيل كيف يجوز أن يقول: السجن أحب إلي مما يدعونني إليه يوسف / 33، وهو لا يحب ما دعونه جملة... قلنا قد تستعمل هذه اللفظة في مثل هذا الموضع، وإن لم يكن في معناها اشتراك، على الحقيقة. وإنما يسوغ ذلك على أحد الوجهين دون الآخر، من حيث كان المخيَّر بين الشيئين لا يخيَّر بينهما إلا وهما مرادان أو مما يصح أن يريدهما... والمجيب على هذا، متى قال كذا أحبّ إليّ من كذا، كان مجيباً على ما يقتضيه موضوع التخيير، وإن لم يكن الأمران يشتركان في تناول محبته). فتقدير قوله (والمجيب على هذا متى قال...) والمجيب بناء على هذا متى قال، وقوله (كان مجيباً على ما يقتضيه..) كان مجيباً جواباً مترتباً على ما يقتضيه..
وقد جاء في الأشباه والنظائر (3 / 257): (فتقول الجواب عليه من وجهين) أي الجواب المترتب عليه، إنما يكون من وجهين.
وجاء في الخصائص لابن جني (2 / 266): (ومن ذلك قولك في جواب من قال لك: الحسن أو الحسين أفضل، أم ابن الحنفية؟ الحسن، أو قولك الحسين، وهذا تطوع من المجيب بما لا يلزم.. ذلك أن جوابه على ظاهر سؤاله، أن يقول له: أحدهما. ألا ترى أنه لما قال له: الحسن أو الحسين أفضل أم ابن الحنفية، فكأنه قال أحدهما أفضل أم ابن الحنفية؟ فجوابه، على ظاهر سؤاله، أن يقول أحدهما). فما تعليل قوله (جوابه على ظاهر سؤاله) أقول أنه على تقدير. جوابه المبني على ظاهر سؤاله. وقد أردف ابن جني: (ونظير قوله في الجواب على اللفظ..) أي في الجواب المحمول على اللفظ، و(على) في كل ذلك للاستعلاء مجازاً.
تعدية (أجاب) بعن وعلى ومعناه مع كل منهما:
ومن هنا كان الطعن على تعدية (أجاب) بغير (عن) دون تدبر معناه وما هو عليه من تقدير الكلام، مجازفة في القول، وحكم لا تناط به ثقة ولا يُخلد إليه بيقين.
ونحو من ذلك قول الدكتور مصطفى جواد في كتابه ( وهذا جواب على الكتاب. وذلك لأن المسموع عن العرب، والمذكور في كتب العربية: أجاب عن السؤال، لا أجاب عليه، ولأن معنى الفعل، أجاب، يستوجب استعمال ـ أجاب، يستوجب استعمال ـ عن ـ لإفادة الإزاحة والكشف والإبانة والقطع والخرق، ولا يصلح معه استعمال ـ على ـ التي هي للظرفية الاستعلائية. قال ابن مكرم الأنصاري: الإجابة رجع للكلام، تقول فيه: أجابه عن سؤاله، وقد أجاب إجابة وإجاباً وجواباً وجابة).
كما كان إطلاق القول في جواز استعمال (أجاب على) محل (أجاب عن) غير صحيح، وعلى نحو من هذا ما جاء به الأستاذ صبحي البصَّام فيما استدركه على كتاب (قل ولا تقل)، قال: (قلت يجوز أن تقول أجاب عن السؤال، وهو أصل، وأن تقول: أجاب على السؤال، وفي السؤال، وكلاهما فرع. وأنا باسط الكلام على ذلك ها هنا بعض البسط)، ثم أتى بشواهد من كلام البلغاء، فيها تعدية (أجاب) بعن، وشواهد أخرى فيها تعديته بعلى، وذهب إلى أن (على) قد حلَّت فيها محلّ (عن) وأدت معناها، كما حلَّت (على) محل (عن) في قولك (رضي عليه) و(رمى على القوس) و(ذهب عليَّ) مما اعتاد النحاة أن يذكروه في الأمثلة التي أدَّت فيها (على) مؤدى (عن).
أقول المعنى المطرد لعلى هو الاستعلاء حسَّاً نحو قوله تعالى وعليها وعلى الفلك تحملون ـ المؤمنون / 22 أو معنى نحو قوله تعالى فضَّلنا بعضهم على بعض ـ البقرة / 253. أما ما ذكره النحاة من المواضع التي فيها (على) محل (عن) فينبغي أن تقصر على الأمثلة المحكية وما شابهها، ولو جاز استعمال (على) لكل المعاني المذكورة، في كل موضع، لصح قولك (نبت على فلان). بمعنى قولك نُبتُ عنه)، وهذا محال. في كل موضع، لصح قولك (نبت على فلان). بمعنى قولك نُبتُ عنه)، وهذا محال. فانظر إلى ما جاء في المغني لابن هشام (على أن البصريين ومن تابعهم يرون في الأماكن التي ادّعيت فيها النيابة أن الحرف باق على معناه، وأن العامل ضُمِّن معنى عامل يتعدّى بذلك الحرف لأن التجوز في الفعل أسهل منه في الحرف ـ 2 / 173) وفي (الهمع) للإمام السيوطي (والبصريون قالوا لو كان لعلى هذه المعاني لوقعت موقع هذه الحروف فكنت تقول وُليِّت عليه أنه عنه. وكتبت على القلم أي به، وجاء زيد على عمرو أي معه، والدرهم على الصندوق أي فيه، وأخذت على الكيس أي منه) وأردف: (وأوِّلوا ما تقدم على الضمين ونحوه فضمِّن تتلو معنى تقول، ورضي معنى عطف... واكتالوا معنى حكموا في الكيل..). ذلك أن للفعل مع كل حروف وجهة خاصة قد تداني وجهته مع حرف آخر، لكنها لا تطابقها ولا تواقعها. وهذا ما أكده أبو نزار ملك النحاة حين قال: (إن الفعل يتعدى بعدة من حروف الجر على مقدار المعنى اللغوي المراد من وقوع الفعل، لأن هذه المعاني كامنة في الفعل وإنما يثيرها ويظهرها حروف الجر) وأردف (وذلك إذا قلت خرجت فأردت أن تبين ابتداء خروجك قلت خرجت من الدار، فإن أردت أن تبين أن خروجك مقارن لاستعلائك قلت خرجت على الدابة، فإن أردت المجاوزة للمكان قلت خرجت عن الدار...) فأتى لكل حرف بمعناه الذي خُصّ به، وأوضح هذا صاحب الكليات فقال (الفعل المتعدّي بالحروف المتعدية لابد أن يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر، وهذا بحسب اختلاف الحروف. فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق..) وأردف (وإن تقارب معاني الأدوات عسر الفرق نحو قصدت إليه وله وهديت إلى كذا ولكذا، فالنحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، أما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره..). فقد يغنى قولك (أجاب على) عن قولك (أجاب عنه) حيناً لكن إغناء أحد الحرفين عن الآخر لا يعني البتة أنهما على معنى واحد، كما بسطنا الكلام عليه في أمثلتنا السابقة.
وفي كتاب الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري (قال المحققون من أهل العربية أن حروف الجر لا تتعاقب حتى قال ابن درستويه: في جواز تعاقبها أبطال حقيقة اللغة وإفساد الحكمة فيها والقول بخلاف ما يوجبه العقل والقياس).
بعض ما تعدَّى بعن وعلى ومعناه مع كل منهما:
تقول (سكتّ عن الكلام) إذا امتنعت منه و(سكتّ عن الأمر) إذا أغفلته وتجاوزت وتغاضيت عنه مجازاً، لكنك إذا قلت (سكتّ عليه) فقد أردت شيئاً آخر.
قال الشاعر:
ليس العمى طول السؤال وإنما |
|
تمام العمى طول السكوت على الجهل |
أقول قد ضُمِّن السكوت هنا معنى الصبر، وبينهما اشتراك في المعنى. فإذا قلت (سكتّ على الجهل) كان معناه: سكتّ عن الجهل صابراً عليه.
وتقول (نمت عنه) إذا نمت حقاً كما جاء في الحديث (تنام عن العجين) فإذا أردت المجاز فيه كان معناه غفلت عنه. ففي نهج البلاغة (1 / 78): (لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون) لكنك تقول (نمت عليه) كما جاء في نهج البلاغة (3 / 78) (ينام الرجل على الثكل ولا ينام على الحَربَ). قال الرضي (ومعنى ذلك أنه يصبر على قتل الأولاد ولا يصبر على سلب الأموال)، والحرب بالتحريك سلب الأموال.
وتقول (خرج عن القانون) إذا حاد عنه و(خرج على القانون) إذا تمرد عليه وتصدى لمخالفته، كقولك (خرج على السلطان أو الإمام أو الخليفة).
وتقول (نبا عنه) إذا حاد ورجع و(نبا عليه) إذا اشتد عليه ولم ينقَدْ، ذلك نحو ما جاء في نهج البلاغة (3 / 101): (يرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء).
وهكذا قولك (شرد عنه وعليه) و(نشز عنه وعليه) و(صبر عنه وعليه).
وقصاري ما هناك أنه قد صح بما قدمنا أنه لا يجزيك في اختيار الحرف لتصريف الفعل العودة إلى المعجمات لتقع على الحرف الذي خُصّ به الفعل في معنى من المعاني، أو إلى كتب اللغة لتقف على المعاني المطَّردة لكل حرف، بل لابد أن تحظى بنصيب من الدراية وتضرب بسهم من الفقه، بمطالعة كتب الأدب نثره وشعره وطول مدارستها، فلاشك في أنها ستطلعك على ما يُطرفك في هذا الباب، وتسبق بك إلى الحكم على ما يفضي إليه الفعل من معنى مع كل حرف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق